بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
أردت أن أكتب في هذا الموضوع علاقة أهل التحقيق بهذا الزمان وهو سطر أكتبه لسيدي محبّ الشعراني بعد أن أشار إلى علاقة سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه بهذا الزمان.
فأقدّم تمهيدا وجيزا أذكر فيه ما إرتأيته الآن ثمّ بعده أدخل في الموضوع مباشرة.
أحداث آخر الزمان ستكون فريدة في نوعها وكيفها وكمّها ولا يمكن مقارنتها بالأحداث التي سبقتها منذ انفصال حكم الظاهر عن الباطن من بعد سيدنا الحسين رضي الله عنه من حيث المتغيّرات ومن حيث الأعراف.
إذ أنّ هذه الأحداث الأخيرة المتواصلة نسفت العديد من الاستقراءات السابقة والكثير من الأديولوجيات الحاكمة فإنّ من علامات آخر الزمان كما ورد في الحديث أن ( يصبح الحليم فيها حيرانا ) هذا لنعلم تداعياتها وأنّها قادمة على غير مقاييس سابقة أو مطروحة أو متوقّعة بحسب ما نظّر لها العقل أو كيّفها الخيال أوأجازها القياس بل هي خارقات على مختلف الأصعدة وذلك يفتح لنا مجالا رحبا للتفكّر إذ أنّ قيام ديننا في أركانه العليا ومراميه الراقية على التفكّر ( ويتفكّرون ) لأنّ الحواس التي هي أسباب أساسية تتمحور حول :
البصر : وهو للنظر ( أفلا ينظرون ) قال تعالى ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ...الآية ) فجعل خلق الإبل في موازاة رفعة السماء فيمكن اعتمادها إشارة فيما وصلت إليه وسائل النقل اليوم من كيفيات وفي موازاة نصب الجبال وفي موازاة سطحية الأرض وهذه كلّها مجالات النظر وهو فتح باب علوم الذرّة والتكنولوجيا لمن تدبّر في القرآن , رغم أنّ القرآن كتاب أخلاقي في أعالي مراميه ( خلق الإنسان في أحسن تقويم ) فإنّ الأخلاق كانت في حسنها بحسب حسن خلق الإنسان الذي قيل فيه ( في أحسن تقويم ) وهو مناط الكمال الإنساني فإنّ ( الخلق أي الصنعة ) لا تكمل إلاّ ( بالأخلاق ) لذا قال تعالى ( خلق الإنسان ) أي ( في أحسن تقويم ) ثمّ قال ( علّمه البيان ) أي علّمه التعبير عن هذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم بما قاله بداية ( علّم القرآن ) ثمّ أجمل الكلّ فقال ( الرحمان ) لتعلم أنّ الرحمة هي المحيطة بالوجود وهي تعريف ( الخَلق ).
ثمّ يأتي العلم وهو المعرّف بالإحاطة الثانية , فكان الإنسان بين إحاطتين هما ( الرحمة والعلم ) فالرحمة ( خلق الإنسان ) والعلم ( علّمه البيان ) فقوله تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) تأويلها فيما جاء بعدها وهو قوله تعالى ( خلق الإنسان علّمه البيان ) فكان العالم بين أمرين : الأمر الأوّل : وصول الإنسان إلى علوم الكون الظاهرة إلى أعلى مراقيه وهو ما تشهده اليوم من تكنولوجيا ... ثمّ وصوله أيضا إلى علوم الأخلاق في أعلى مراقيها وهو ما غاب اليوم ....
فصار الأمر أن خرجت المعاني الأخلاقية في صورة معكوسة وهي صورة الحضارة التكنولوجية حتّى أضحت هذه التكنولوجيا فاقدة لروح الأخلاق فيها التي هي أخلاق القرآن فتجسّدت اليوم هيئات الأخلاق في ظواهر مادية بمعنى أنّ جميع المعاني النورانية والقلبية تتجسّد اليوم في شكل مادي كالكشف مثلا هو أداة قلبية أعطاها الله تعالى للاولياء فحلّ ما يقابلها من المادّة كالأقمار الصناعية أو الأشعّة ما تحت الحمراء أو غيرها ممّا يقوم مقام الكشف لكن هذا فقط في العالم المادّي وأعني بالعالم المادي كلّ ما هو ملموس ومحسوس بالحواس الخمسة ولو كانت كواكب بعيدة أو أفلاك أو نجوم ...
فصار اليوم التجسيد ظاهرا إلى أن يخرج الدجّال فيجسّد الإله فإنّ الأمر تابع لبعضه البعض فصارت هذه التجسيدات التكنولوجية مثل خوارق العادات ومثل الكرامات التي هي من معاني الأخلاق التي هي من علوم القرآن لأنّك متى اكتسبت الرحمة ولم تكتسب العلم فمصيبتك أن تكون مجسّدا فكرا وعقلا فتحلّ محلّ الروحانيات حتى تكذّبها بل وتعاديها عداوة شديدة.
لهذا ورد في الحوار الذي دار بين إبليس وبين وليّ الله تعالى عبد الله التستري كما أورد الحكاية الإمام الشعراني رحمهما الله تعالى أنّ إبليس قال لعبد الله التستري : أليس الله تعالى يقول ( ورحمتي وسعت كلّ شي ) فقال له : نعم , فقال إبليس : إذن لقد وسعتني رحمة الله فأنا شيء وهي وسعت كلّ شيء , فقال عبد الله التستري بعد أن تحيّر قليلا وظنّ أنّه سيفحمه : ولكنّ الله تعالى يقول ( فسأكتبها للذين يتّقون ) وأنت لست من المتّقين فأجابه إبليس لعنه الله : ما كنت أظنّ أن يبلغ الجهل بك هذا المبلغ فإنّ التقييد صفتك لا صفته ...إلخ فقال عبد الله التستري : فحيّرتني إجابته وعلمت أنّ له مطمعا فيّ فذهبت وتركته , وقد ورد أيضا حوار آخر بين إبليس وبين سيدي محي الدين بن عربي ...
وعليه نفهم مستوى فهم إبليس في القرآن فإنّ فهمه فيه لا يتجاوز حدود المادّة بمعنى أنّه أخذ من علوم القرآن علوم الذرّة الظاهرة وأخذ علوم الفلك وعلوم القواطع ... وهكذا ... لذا نجح أنصاره وجنوده في حكم العالم بيد حديدية بهذا الفهم وهو فهم المرتبة العليا من التكنولوجيا والحضارة المادية ولكنّه حجب حجابا تامّا بعد أن طرد من الرحمة الإلهية أي طرد من مددها الجمالي في الجانب الخُلقي لا الخَلقي.
فلو كنت مكان عبد الله التستري لأجبت إبليس بقولي : نعم قال تعالى ( فسأكتبها للذين يتّقون ) أي وفي نفس الوقت سيكتبها على الذين لا يتّقون عذابا وعقابا وبعدا وطردا, شاهد حالتك فهي في الحالتين رحمة ولكن شتّان بين أن يكتبها له وبين أن يكتبها عليه , فعبد الله التستري كتب الله تعالى له الرحمة ولكن إبليس كتب الله عليه الرحمة التي تنقلب نقمة , فله : ( فضل) , وعليه : ( عدل ) .
فكان فهم إبليس من القرآن الفهم المادي فقط بما أنّه يعرف القرآن ويقرأ القرآن ولكن لا تزيده قراءته للقرآن إلاّ ضلالا كما قال تعالى ( ويضلّ به كثيرا ) فإنّه لا يضلّ به إلاّ من قرأه قراءة ضلال نفسية فعالمه مادي من القرآن لذا نبّهنا الله تعالى إلى معنى القراءة الحقيقية للقرآن وأنّها متّصلة بالرحمة أي اتّصال الظاهر مع الباطن ( الرحمان علّم القرآن ) أي قبل الخروج إلى عوالم الأكوان.
لذا جاء بعدها ( خلق الإنسان علّمه البيان ) فيكون تعليم البيان وهو الحصول على الحضارة التكنولوجية في أعلى مراميها يكون متوافقا مع القرآن أي صورة ظاهرة حسنة وصورة باطنة توافقها حسنة في غاية الحسن حتّى يتجسّد الظاهر كصورة روحية رغم مادّيتها كما حال أهل الجنّة في الجنّة وهذا ما أراده الله تعالى لنا لمّا طلب من آدم السكنى في الجنّة ولكن نهاه عن الأكل من الشجرة كي يكمل الظاهر مع الباطن .
وإنّما بداية إنفصال الظاهر عن الباطن وقع بعد الأكل من الشجرة فرجعت المادية البشرية إلى صورتها الطبيعية من حيث حجاب المادة والعناصر فكان علم إبليس بهذا جيّدا فاستطاع أن يفصل الظاهر عن الباطن فأخرجنا من الجنّة ولكنّه لم و لن يستطيع إخراجنا من الحضرة والتي هي قوله تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) لذا قال تعالى مبيّنا هذا ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ثمّ قال ( ثمّ رددناه أسفل السافلين ).
فهذه الوصلة بين الظاهر وبين الباطن في عدّة جوانب منحها الله تعالى فضلا منه و رحمة فعاشت فيها أمم من النّاس في الأرض كالأنبياء والمرسلين كقوله عليه الصلاة والسلام ( إنّي أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني ) و كبني إسرائيل في جانب مثلا فقد عاشوا على رزق المنّ والسلوى إلاّ أنّهم طلبوا الهبوط ( اهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم ) بعد أن أرجعهم الله تعالى إلى الحياة الروحية العالية والتي يتّصل فيها الظاهر مع الباطن وقد عاش فيها الخضر وعاش فيها أصحاب الكهف وكذلك الأنبياء كسليمان الذي تحمله الريح وداود عليهما السلام والكثير من الأولياء.
وإن كنّا نضع كلّ هذا بين جانبين هما المعجزات والكرامات كذلك لأنّ العنوان الكبير هو العيش الملكي في صورة الإنسان البشري بمعنى أنّك تكون كملك من الملائكة أو أكثر وأنت في صورة بشريته الحقيقية فإنّ كلّ من فصل الظاهر عن الباطن فهو شيطان.
من هنا تفهم خطورة فصل الخلافة من عهد بني أميّة وإلى اليوم فتفهم مرامي سيدنا الحسين عليه السلام فقد قُتل دون ذلك لأنّه لا صبر له على مشاهدة هذا الفصل فرضي بالموت دون هذا الفصل لذا كان آل البيت لا خلافة لهم أصلا إلاّ في صورتها الكاملة من حيث جمع الظاهر مع الباطن وهذا ما سيحدث في عصر المهدي عليه السلام فكيف يرضى آل محمّد صلى الله عليه وسلّم بالفصل وهو يقول لهم ( كتاب الله وعترتي الطاهرة ) أم أنّك تظنّ أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام يمزح معنا.
فدلّك بهذا على النظر متى تعلّق الأمر بالكمال المادي بوصلته بالكمال الأخلاقي و إلاّ فإنّه لا يعدّ نظر بل يصبح علمنة فتكون علمانيا جلدا متى فصلت الظاهر عن الباطن ولو كنت لابسا زيّ المشائخ وأهل الدين من العلماء.
ثمّ بعد النظر يأتي السمع وإن كان مقدّما في الآيات عن البصر : وهو الفحوى واللحن ( أفلا يسمعون ) والسماع هو لسان الحضرة في عالم الأكوان وهو إلى قسمين : سمع كلّي وسمع جزئي وفي هذا علوم كثيرة جدّا و فيها علوم الإحاطة القرآنية بالسماع لأنّ هناك أمرا يجب مراعاته وهو أنّ القرآن في إحاطته الكليّة لا يقوم به إلا القطب الفرد الغوث الجامع في وصف الخلافة الظاهرة والباطنة فكلّ الأكوان تحت سلطة حكمه فمتى غيّب أو خفي هذا القطب سمّي غوثا أمّا متى ظهر سمّي خليفة .
فلا يعطى إسم الخليفة حقيقة إلاّ بوجود حالتين هما : الظهور جسدا و روحا يشاهده العام والخاص فيكون داعيا إلى الله جامعا يجتمع حوله الناس ليس له عصبيات مذهبية ولا طرقية ولا عصبية انتماءات بل يحكم بكتاب الله وسنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يفرق بين أبيض وأسود ولا عربي وأعجمي والثاني ظهور الجهاد بالسيف في زمنه دفعا للظلم وإقامة للعدل إذ أنّ إقامة العدل في الأكوان من مشمولات الخليفة الجامع بين الظاهر والباطن.
فالظاهر هو الإمارة الجامعة و الباطن هي الخلافة الجامعة , فكلّ الأقطاب تحت تصرّفه وإمرته إلاّ ما كان من الأفراد الخارجين عن نظر القطب كما بيّن الأولياء ذلك ومنهم سيدي محي الدين رضي الله عنه لأنّه لا انفراد في الوجود لغير الواحد المعبود وهو الدفاع عن المكانة فلا يمكن أن يخرج خليفة ولا يكون الجهاد عنوانه وعمله ...
ثمّ القلب : الذي هو ربيع القلب وهو مجال علوم الرحمة و فنونها وجمالها فيكون جامعا للرحمة ذوقا فيرحم من في الأرض جميعهم بما فيهم الكفّار وذلك بإقامة العدل فيهم وعليهم إذ أنّ عنوان الخليفة هو العدل فهذا منشوره و هو مناط الخلافة فلا يمكن لأحد أن يقيم الحكم بالشرع الإسلامي إلاّ بعد أن يعرف علوم العدل كلّها فيمدّ من حضراتها على وجه الإحاطة النسبية لأنّ الله تعالى له الإحاطة الكليّة ....
فالقلب وصفه الأصلي : الرحمة أمّا وصفه الفرعي فهو فهم تلك الرحمة وتوزيعها بعدل وانصاف وآية هذا ( محمّد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم ) فما قال ( يحقدون أو ينقمون على الكفّار بل قال أشدّاء ) إذا فهمت دلالات القرآن واعجاز علومه ومعارفه وأنّها الحقّ الذي لا يأتيه الباطل فقوله تعالى ( رسول الله ) أي الخلافة الظاهرة والتي باطنها ( النبوّة ) فشدّته الظاهرة يناسبها الرسلية لذا قال تعالى ( محمد رسول الله ) أي الصورة الكونية المادية والمتمثّلة في صورة الكون على صورة جسمه الشريف المحمدي فهو شديد على الكفّار الذين لا يؤمنون بالله تعالى فتكون هذه الشدّة في ذرّات الأكوان فضلا عن الأحكام الشرعية كالجهاد وغيره وهذا فصل لا يجوز أخذه ببساطة بل لا بدّ فيه من تفصيل طويل ربّما نأتي عليه يوما ما ( والذين معه ) من العوالم النورانية في مختلف مظاهرها المادية متى فهمت معنى الرسلية إذ أنّ مناطها الأمر الآخر وهو :
العقل : الذي هو عالم الأسماء وعلومها مجال العدل أيضا و لكن في صورة الحُكم لأنّك متى عدلت حكمت من غير حكم ظاهر فإنّك لا تأمر الذئب وتحكم عليه أن يرعى بالأغنام و لكنّ عدلك هو الذي حكم عليه وقلبك مطمئنّ على الرعية حكمت فعدلت فنمت كما ورد في الأثر.
وهنا هناك تفاريع كثيرة جدا لا يفي الوقت بسردها كلّها .
يتبع...
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
أردت أن أكتب في هذا الموضوع علاقة أهل التحقيق بهذا الزمان وهو سطر أكتبه لسيدي محبّ الشعراني بعد أن أشار إلى علاقة سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه بهذا الزمان.
فأقدّم تمهيدا وجيزا أذكر فيه ما إرتأيته الآن ثمّ بعده أدخل في الموضوع مباشرة.
أحداث آخر الزمان ستكون فريدة في نوعها وكيفها وكمّها ولا يمكن مقارنتها بالأحداث التي سبقتها منذ انفصال حكم الظاهر عن الباطن من بعد سيدنا الحسين رضي الله عنه من حيث المتغيّرات ومن حيث الأعراف.
إذ أنّ هذه الأحداث الأخيرة المتواصلة نسفت العديد من الاستقراءات السابقة والكثير من الأديولوجيات الحاكمة فإنّ من علامات آخر الزمان كما ورد في الحديث أن ( يصبح الحليم فيها حيرانا ) هذا لنعلم تداعياتها وأنّها قادمة على غير مقاييس سابقة أو مطروحة أو متوقّعة بحسب ما نظّر لها العقل أو كيّفها الخيال أوأجازها القياس بل هي خارقات على مختلف الأصعدة وذلك يفتح لنا مجالا رحبا للتفكّر إذ أنّ قيام ديننا في أركانه العليا ومراميه الراقية على التفكّر ( ويتفكّرون ) لأنّ الحواس التي هي أسباب أساسية تتمحور حول :
البصر : وهو للنظر ( أفلا ينظرون ) قال تعالى ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ...الآية ) فجعل خلق الإبل في موازاة رفعة السماء فيمكن اعتمادها إشارة فيما وصلت إليه وسائل النقل اليوم من كيفيات وفي موازاة نصب الجبال وفي موازاة سطحية الأرض وهذه كلّها مجالات النظر وهو فتح باب علوم الذرّة والتكنولوجيا لمن تدبّر في القرآن , رغم أنّ القرآن كتاب أخلاقي في أعالي مراميه ( خلق الإنسان في أحسن تقويم ) فإنّ الأخلاق كانت في حسنها بحسب حسن خلق الإنسان الذي قيل فيه ( في أحسن تقويم ) وهو مناط الكمال الإنساني فإنّ ( الخلق أي الصنعة ) لا تكمل إلاّ ( بالأخلاق ) لذا قال تعالى ( خلق الإنسان ) أي ( في أحسن تقويم ) ثمّ قال ( علّمه البيان ) أي علّمه التعبير عن هذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم بما قاله بداية ( علّم القرآن ) ثمّ أجمل الكلّ فقال ( الرحمان ) لتعلم أنّ الرحمة هي المحيطة بالوجود وهي تعريف ( الخَلق ).
ثمّ يأتي العلم وهو المعرّف بالإحاطة الثانية , فكان الإنسان بين إحاطتين هما ( الرحمة والعلم ) فالرحمة ( خلق الإنسان ) والعلم ( علّمه البيان ) فقوله تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) تأويلها فيما جاء بعدها وهو قوله تعالى ( خلق الإنسان علّمه البيان ) فكان العالم بين أمرين : الأمر الأوّل : وصول الإنسان إلى علوم الكون الظاهرة إلى أعلى مراقيه وهو ما تشهده اليوم من تكنولوجيا ... ثمّ وصوله أيضا إلى علوم الأخلاق في أعلى مراقيها وهو ما غاب اليوم ....
فصار الأمر أن خرجت المعاني الأخلاقية في صورة معكوسة وهي صورة الحضارة التكنولوجية حتّى أضحت هذه التكنولوجيا فاقدة لروح الأخلاق فيها التي هي أخلاق القرآن فتجسّدت اليوم هيئات الأخلاق في ظواهر مادية بمعنى أنّ جميع المعاني النورانية والقلبية تتجسّد اليوم في شكل مادي كالكشف مثلا هو أداة قلبية أعطاها الله تعالى للاولياء فحلّ ما يقابلها من المادّة كالأقمار الصناعية أو الأشعّة ما تحت الحمراء أو غيرها ممّا يقوم مقام الكشف لكن هذا فقط في العالم المادّي وأعني بالعالم المادي كلّ ما هو ملموس ومحسوس بالحواس الخمسة ولو كانت كواكب بعيدة أو أفلاك أو نجوم ...
فصار اليوم التجسيد ظاهرا إلى أن يخرج الدجّال فيجسّد الإله فإنّ الأمر تابع لبعضه البعض فصارت هذه التجسيدات التكنولوجية مثل خوارق العادات ومثل الكرامات التي هي من معاني الأخلاق التي هي من علوم القرآن لأنّك متى اكتسبت الرحمة ولم تكتسب العلم فمصيبتك أن تكون مجسّدا فكرا وعقلا فتحلّ محلّ الروحانيات حتى تكذّبها بل وتعاديها عداوة شديدة.
لهذا ورد في الحوار الذي دار بين إبليس وبين وليّ الله تعالى عبد الله التستري كما أورد الحكاية الإمام الشعراني رحمهما الله تعالى أنّ إبليس قال لعبد الله التستري : أليس الله تعالى يقول ( ورحمتي وسعت كلّ شي ) فقال له : نعم , فقال إبليس : إذن لقد وسعتني رحمة الله فأنا شيء وهي وسعت كلّ شيء , فقال عبد الله التستري بعد أن تحيّر قليلا وظنّ أنّه سيفحمه : ولكنّ الله تعالى يقول ( فسأكتبها للذين يتّقون ) وأنت لست من المتّقين فأجابه إبليس لعنه الله : ما كنت أظنّ أن يبلغ الجهل بك هذا المبلغ فإنّ التقييد صفتك لا صفته ...إلخ فقال عبد الله التستري : فحيّرتني إجابته وعلمت أنّ له مطمعا فيّ فذهبت وتركته , وقد ورد أيضا حوار آخر بين إبليس وبين سيدي محي الدين بن عربي ...
وعليه نفهم مستوى فهم إبليس في القرآن فإنّ فهمه فيه لا يتجاوز حدود المادّة بمعنى أنّه أخذ من علوم القرآن علوم الذرّة الظاهرة وأخذ علوم الفلك وعلوم القواطع ... وهكذا ... لذا نجح أنصاره وجنوده في حكم العالم بيد حديدية بهذا الفهم وهو فهم المرتبة العليا من التكنولوجيا والحضارة المادية ولكنّه حجب حجابا تامّا بعد أن طرد من الرحمة الإلهية أي طرد من مددها الجمالي في الجانب الخُلقي لا الخَلقي.
فلو كنت مكان عبد الله التستري لأجبت إبليس بقولي : نعم قال تعالى ( فسأكتبها للذين يتّقون ) أي وفي نفس الوقت سيكتبها على الذين لا يتّقون عذابا وعقابا وبعدا وطردا, شاهد حالتك فهي في الحالتين رحمة ولكن شتّان بين أن يكتبها له وبين أن يكتبها عليه , فعبد الله التستري كتب الله تعالى له الرحمة ولكن إبليس كتب الله عليه الرحمة التي تنقلب نقمة , فله : ( فضل) , وعليه : ( عدل ) .
فكان فهم إبليس من القرآن الفهم المادي فقط بما أنّه يعرف القرآن ويقرأ القرآن ولكن لا تزيده قراءته للقرآن إلاّ ضلالا كما قال تعالى ( ويضلّ به كثيرا ) فإنّه لا يضلّ به إلاّ من قرأه قراءة ضلال نفسية فعالمه مادي من القرآن لذا نبّهنا الله تعالى إلى معنى القراءة الحقيقية للقرآن وأنّها متّصلة بالرحمة أي اتّصال الظاهر مع الباطن ( الرحمان علّم القرآن ) أي قبل الخروج إلى عوالم الأكوان.
لذا جاء بعدها ( خلق الإنسان علّمه البيان ) فيكون تعليم البيان وهو الحصول على الحضارة التكنولوجية في أعلى مراميها يكون متوافقا مع القرآن أي صورة ظاهرة حسنة وصورة باطنة توافقها حسنة في غاية الحسن حتّى يتجسّد الظاهر كصورة روحية رغم مادّيتها كما حال أهل الجنّة في الجنّة وهذا ما أراده الله تعالى لنا لمّا طلب من آدم السكنى في الجنّة ولكن نهاه عن الأكل من الشجرة كي يكمل الظاهر مع الباطن .
وإنّما بداية إنفصال الظاهر عن الباطن وقع بعد الأكل من الشجرة فرجعت المادية البشرية إلى صورتها الطبيعية من حيث حجاب المادة والعناصر فكان علم إبليس بهذا جيّدا فاستطاع أن يفصل الظاهر عن الباطن فأخرجنا من الجنّة ولكنّه لم و لن يستطيع إخراجنا من الحضرة والتي هي قوله تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) لذا قال تعالى مبيّنا هذا ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ثمّ قال ( ثمّ رددناه أسفل السافلين ).
فهذه الوصلة بين الظاهر وبين الباطن في عدّة جوانب منحها الله تعالى فضلا منه و رحمة فعاشت فيها أمم من النّاس في الأرض كالأنبياء والمرسلين كقوله عليه الصلاة والسلام ( إنّي أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني ) و كبني إسرائيل في جانب مثلا فقد عاشوا على رزق المنّ والسلوى إلاّ أنّهم طلبوا الهبوط ( اهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم ) بعد أن أرجعهم الله تعالى إلى الحياة الروحية العالية والتي يتّصل فيها الظاهر مع الباطن وقد عاش فيها الخضر وعاش فيها أصحاب الكهف وكذلك الأنبياء كسليمان الذي تحمله الريح وداود عليهما السلام والكثير من الأولياء.
وإن كنّا نضع كلّ هذا بين جانبين هما المعجزات والكرامات كذلك لأنّ العنوان الكبير هو العيش الملكي في صورة الإنسان البشري بمعنى أنّك تكون كملك من الملائكة أو أكثر وأنت في صورة بشريته الحقيقية فإنّ كلّ من فصل الظاهر عن الباطن فهو شيطان.
من هنا تفهم خطورة فصل الخلافة من عهد بني أميّة وإلى اليوم فتفهم مرامي سيدنا الحسين عليه السلام فقد قُتل دون ذلك لأنّه لا صبر له على مشاهدة هذا الفصل فرضي بالموت دون هذا الفصل لذا كان آل البيت لا خلافة لهم أصلا إلاّ في صورتها الكاملة من حيث جمع الظاهر مع الباطن وهذا ما سيحدث في عصر المهدي عليه السلام فكيف يرضى آل محمّد صلى الله عليه وسلّم بالفصل وهو يقول لهم ( كتاب الله وعترتي الطاهرة ) أم أنّك تظنّ أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام يمزح معنا.
فدلّك بهذا على النظر متى تعلّق الأمر بالكمال المادي بوصلته بالكمال الأخلاقي و إلاّ فإنّه لا يعدّ نظر بل يصبح علمنة فتكون علمانيا جلدا متى فصلت الظاهر عن الباطن ولو كنت لابسا زيّ المشائخ وأهل الدين من العلماء.
ثمّ بعد النظر يأتي السمع وإن كان مقدّما في الآيات عن البصر : وهو الفحوى واللحن ( أفلا يسمعون ) والسماع هو لسان الحضرة في عالم الأكوان وهو إلى قسمين : سمع كلّي وسمع جزئي وفي هذا علوم كثيرة جدّا و فيها علوم الإحاطة القرآنية بالسماع لأنّ هناك أمرا يجب مراعاته وهو أنّ القرآن في إحاطته الكليّة لا يقوم به إلا القطب الفرد الغوث الجامع في وصف الخلافة الظاهرة والباطنة فكلّ الأكوان تحت سلطة حكمه فمتى غيّب أو خفي هذا القطب سمّي غوثا أمّا متى ظهر سمّي خليفة .
فلا يعطى إسم الخليفة حقيقة إلاّ بوجود حالتين هما : الظهور جسدا و روحا يشاهده العام والخاص فيكون داعيا إلى الله جامعا يجتمع حوله الناس ليس له عصبيات مذهبية ولا طرقية ولا عصبية انتماءات بل يحكم بكتاب الله وسنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يفرق بين أبيض وأسود ولا عربي وأعجمي والثاني ظهور الجهاد بالسيف في زمنه دفعا للظلم وإقامة للعدل إذ أنّ إقامة العدل في الأكوان من مشمولات الخليفة الجامع بين الظاهر والباطن.
فالظاهر هو الإمارة الجامعة و الباطن هي الخلافة الجامعة , فكلّ الأقطاب تحت تصرّفه وإمرته إلاّ ما كان من الأفراد الخارجين عن نظر القطب كما بيّن الأولياء ذلك ومنهم سيدي محي الدين رضي الله عنه لأنّه لا انفراد في الوجود لغير الواحد المعبود وهو الدفاع عن المكانة فلا يمكن أن يخرج خليفة ولا يكون الجهاد عنوانه وعمله ...
ثمّ القلب : الذي هو ربيع القلب وهو مجال علوم الرحمة و فنونها وجمالها فيكون جامعا للرحمة ذوقا فيرحم من في الأرض جميعهم بما فيهم الكفّار وذلك بإقامة العدل فيهم وعليهم إذ أنّ عنوان الخليفة هو العدل فهذا منشوره و هو مناط الخلافة فلا يمكن لأحد أن يقيم الحكم بالشرع الإسلامي إلاّ بعد أن يعرف علوم العدل كلّها فيمدّ من حضراتها على وجه الإحاطة النسبية لأنّ الله تعالى له الإحاطة الكليّة ....
فالقلب وصفه الأصلي : الرحمة أمّا وصفه الفرعي فهو فهم تلك الرحمة وتوزيعها بعدل وانصاف وآية هذا ( محمّد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم ) فما قال ( يحقدون أو ينقمون على الكفّار بل قال أشدّاء ) إذا فهمت دلالات القرآن واعجاز علومه ومعارفه وأنّها الحقّ الذي لا يأتيه الباطل فقوله تعالى ( رسول الله ) أي الخلافة الظاهرة والتي باطنها ( النبوّة ) فشدّته الظاهرة يناسبها الرسلية لذا قال تعالى ( محمد رسول الله ) أي الصورة الكونية المادية والمتمثّلة في صورة الكون على صورة جسمه الشريف المحمدي فهو شديد على الكفّار الذين لا يؤمنون بالله تعالى فتكون هذه الشدّة في ذرّات الأكوان فضلا عن الأحكام الشرعية كالجهاد وغيره وهذا فصل لا يجوز أخذه ببساطة بل لا بدّ فيه من تفصيل طويل ربّما نأتي عليه يوما ما ( والذين معه ) من العوالم النورانية في مختلف مظاهرها المادية متى فهمت معنى الرسلية إذ أنّ مناطها الأمر الآخر وهو :
العقل : الذي هو عالم الأسماء وعلومها مجال العدل أيضا و لكن في صورة الحُكم لأنّك متى عدلت حكمت من غير حكم ظاهر فإنّك لا تأمر الذئب وتحكم عليه أن يرعى بالأغنام و لكنّ عدلك هو الذي حكم عليه وقلبك مطمئنّ على الرعية حكمت فعدلت فنمت كما ورد في الأثر.
وهنا هناك تفاريع كثيرة جدا لا يفي الوقت بسردها كلّها .
يتبع...





0 التعليقات:
إرسال تعليق