بسم الله الرحمان الرحيم-
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ).
إنّما بدأ سبحانه وتعالى في هذه الآية بذكر القلوب وفقهها فسبّقه على ما جاء بعده لأنّ ما بعده من لوازمه كما قال تعالى ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) فما قال له ( ولكنّهم لا يرونك ) بل قال ( لا يبصرون ) رغم أنّهم ينظرون إليه أي يرونه في صورته الظاهرة فوقع عليه نظرهم ولم يقع عليه بصر قلوبهم في صورته الباطنة بمعنى أنّهم محجوبون عنه فعلمنا هنا أنّ ( لهم أعين لا يبصرون بها ) والسبب هنا هو عدم ( فقه القلب ) فلو فقه القلب لرأت تلك الأعين وأبصرت.
حتّى أنّ إبليس لعنه الله تعالى سبقهم في النظر كما قال ( إنّي أرى ما لا ترون ) لمّا رأى جبريل مع مدد الملائكة كما سيرى الدجّال في آخر الزمان الملائكة على أبواب مكّة والمدينة فلا يستطيع دخولهما.
فنحن اليوم في زمن يكذَّب فيه الأولياء عندما يخبرون بكشفهم وبرؤيتهم للأرواح والملائكة رغم تصديقهم أحاديث نبوية وحقّ لهم ذلك في أنّ إبليس والدجال لعنهما الله تعالى يرون جبريل وميكائيل والملائكة.
فتبّا لعبد يصدّق برؤية إبليس والدجال للملائكة ويكذب أولياء أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم فيما يخبرون به بصدق وكشف, حتّى عدّ الوهابيون اليوم عالم الكشف من الخرافات والخزعبلات ثمّ يتصدّرون لنفع الناس بحسب زعمهم رغم أنّ جميع الصحابة ممّن حضر ذلك المجلس العلمي رأوا سيدنا جبريل في صورة إعرابي لمّا جاء يعلّمهم دينهم.
وقد أخبرني أحد ساداتنا من العارفين أنّه إلتقى سيّدنا جبريل عليه السلام في الحرم المكّي فما تردّدت لحظة في تصديقه لما هو عليه من صلاح وتقوى ومخافة لله تعالى رآه في صورة أعرابي بعصاه إزاء الكعبة , وليس المقصود في هذا مجرّد الرؤية أو الكشف وإنّما المقصود أنّه كيف عرف أنّ هذا جبريل وأنّ ما رآه من صورة أخرى في مكان آخر هو شيطان فهذا ما نسمّيه بـــ ( فقه القلوب ) الذي أخبرت عنه الآية وعليه دلّت.
لأنّ البصر والسمع لا يشتغلان حقيقة إلاّ متى فقه القلب أمر دينه وهو المعبّر عنه عند أهل الله تعالى بنور القلب الذي هو مزور القلب والعلم زائر فمن لم يسبق نوره علمه فلا يعتدّ به في طريق الله تعالى , لذا من سبق علمُه نورَه فلا يخلو علمه من كبوات وهذا للعلماء خاصة من أهل الظاهر ولو لا مخافة إساءة الأدب مع أهل الطريقة لذكرنا بعض مشائخ ممّن يسبق علمُهم نورهم , أمّا من سبق نوره علمه كسيدي ابن عباد وابن عجيبة وغيرهما رضي الله عنهما من كبار العارفين فعلمهم محمول وليس حاملا لأنّ العلم متى كان محمولا كان موهوبا.
كما قال تعالى ( إقرأ ) أي إقرأ فقط ونحن نفسّر لك بما عندك من النور الذي لا نفاذ له لذا قال له ( وقل رب زدني علما ) أي كي يحمله نوري فأفهمه ولا أطغى به بما أنّه لا يدلّني إلاّ عليك ولا ينيخ بي المطايا إلاّ بين يديك كما قال في حقّ أهل النور ومنهم الخضر ( وعلّمناه من لدنّا علما ) فهؤلاء وغيرهم عليهم السلام علمهم محمول وليس حاملا أمّا من حمل علمُه نوره فقلّ أن تسلم بصيرته من العمى ( وأضلّه الله على علم ) بسبب فقدانه النور .
لأنّ النور هو الإمام والعلم مأموم في هذا المقام من التعلّم فالعلم هو المصباح الكاشف ما أمامك في سيرك وإلاّ كبوت وسقطت في حفر الظلمة لذا قيل في الحكم العطائية مثلا بأنّها كادت أن تكون وحيا فسبب هذا القول أنّها نور على نور وكذلك قصيدة البوصيري المشهورة بالبردة و شروح أهل الله فهي نور على نور وذلك هو العلم النافع.
لذا ذهب جماعة ومنهم الإمام الشافعي والإمام مالك وغيرهما أنّ العلم نور ولا يعنون به أنّهما شيء واحد بل يريدون أنّ العلم متى خلا من نوره فلا يعتبر علما , فسلب إبليس النور وأبقي عليه العلم وكذلك الدجال لهذا كان الصراع بين النور والظلمة فحين أستعمل العلم خاليا من نوره ترى اليوم ما وصل إليه العلم كما قال تعالى ( ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ) أي من علم السحر سواء في الباطن أو الظاهر .
وإنّ من العلم الدنيوي ما هو نافع ومنه ما هو ضار فليس المنع في تعلّم العلم الظاهر من الصناعات وغيرها بل المحذور تعلّم ما يضرّ منه كصنع القنبلة النووية والقنابل العنقودية والكيميائية بأنواعها فهي فساد في الأرض والله لا يحبّ المفسدين لأنّ مؤسّس هذه العلوم كأنشتين وغيره من الفزيائيين ما هم إلاّ شياطين في الحقيقة وهم من اليهود وهذا ديدنهم ما عرفوا غير الفساد والإفساد ... لأنّ عليهم من الله غضبين.
قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) فالآية صريحة في بابها من حيث أنّ القلب له فقه والفقه لا بدّ فيه من وجود الإدراك والعلم كما قال عليه الصلاة والسلام ( من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين ) لذا أفرغ اليوم معنى حقيقة الفقه من موضوعه فظنّوا أنّ الفقه بمعناه الخاص والعام ما هو إلاّ معرفة الأحكام الفقهية العملية والتوسّع فيها وقد ضلّوا في ذلك ضلالا كبيرا.
لذا قال الله تعالى واصفا من لا فقه قلبي له في آخر الآية بأنّه ( أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فشبّههم بالأنعام بل هم أضلّ منها ثمّ أوضح بيان الخلل ووصف العلّة فقال ( أؤلائك هم الغافلون ) فمن لا فقه قلبي له فهو كالبهيمة فمتى كان عالما فهو كالحمار يحمل أسفارا ...
لأنّ القرآن وردت ألفاظه بحسب معنى كلّ حقيقة سواء في مستوى العقل أو القلب أو الروح, فمثلا إنّ ما يقابل العلم في مستوى العقل هو اليقظة في مستوى القلب , فعندما ترد لفظة ( الغفلة ) نعلم أنّها للقلب وعندما ترد لفظة ( الفقه ) في القرآن نعلم أنّها للقلب خاصّة أمّا متى وردت لفظة العلم فنعلم شموليتها وأنّها الحكم الجامع في المستويات الثلاثة العقل والقلب والروح وقد تأتي في مستوى بمفرده دون غيره كمستوى العقل وهي له خاصّة لأنّه الخليفة.
فالعقل مجاله عالم الحكم والخلافة وهو عالم التخصيص والظاهر أمّا القلب فهو للعبودية خاصّة كالأحوال والمقامات وهي للحال لذا في عالم الخلافة لا بدّ من تقييد أحوال القلب بميزان علم العقل بنوره حتّى لا يصبح أهل الديانة كلّهم من المجاذيب فيصبح الدين جذبا وهو باب للدروشة ودخول الشيطنة فإنّ إبليس لا يأتيك إلاّ متى تجرّد عقلك عن قلبك ومتى تجرّد قلبك عن عقلك لذا نصب له الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه العداء لمّا أراد أن ينفرد بقلبه دون عقله فخاطبه الشيخ بالعقل مع وجود نور القلب فخنس وانطفأت تلك الأنوار الكاذبة وذلك الصوت السماوي الخادع ...
فإذا علمت أنّ يوم القيامة هو يوم قلوب وهو يوم الحساب على المعاني قبل المباني تدرك أنّ ما كان باطنا هنا يكون ظاهرا هناك والعكس صحيح وقد أوضح النبيّ عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة الجامعة فقال ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب ) ومن جملة هذا الجسد العقل والعمل والفكر والحركات والسكنات لأنّ الأحاديث الشريفة قد تأتي على معنيين في نفس الوقت أي في الشريعة والحقيقة وهي هكذا غالبا لأنّها وحي والوحي أمره قلبي سماوي وروحي علوي وهكذا هو الدين.
لذا نقول اليوم : أنّ العالم بأسره إلاّ من رحم الله تعالى هو في عصر جاهلية كبرى وفي تلك الجاهلية سيخرج عليهم الدجّال وهو عصر الظلمة الحالكة لأنّ معنى الجاهلية ليس جاهلية العقول بل هي جاهلية القلوب لذا قلّ العلم في الناس اليوم رغم انتشار القلم الذي هو علامة من علامات اقتراب الساعة وهي من علامات آخر الزمان وقد ورد في الحديث ( يفشو العلم ) لأنّه زمن المعكوسات.
فإنّ إبليس لعنه الله تعالى يحاربنا في عالم الأديولوجيات فهو خبير في هذا الباب:
فأنشأ في العصور الأخيرة نموذجا آخرا بحسب سير الحضارات كالدروينية و الماركسية.
وأنشأ مثلا في الإسلام قديما فقه العقول المجردة من النور كالمعتزلة بالحسن والقبيح.
وأنشأ الخوارج بظواهر النصوص في مرتبة حكم القياس والعقل.
وأنشأ الشيعة في صفة الدفاع عن آل البيت ومحبتهم.
وأنشأ الوهابية دعاة وحماة التوحيد بحسب زعمه.
فهي كلّها فرق استنبطها الشيطان وتلك خططه وحيله لأنّ عالم الفتنة أكبر من القتل فمن عرف حبائل الشيطان فهم الكثير.
فالعلم أمره الحقيقي أمر قلبي وبداية التتلمذ وأخذ العلم يكون ببداية التزكية وهو علم التخلية تخلية القلب من الجهل المعنوي الحاجب كالحسد والحقد والغلّ وحبّ الدنيا والغرور والكبر ...إلخ.
لأنّ عقوبة هذه المعاصي هي عقوبات معنوية كإبليس لعنه الله تعالى عوقب في عالم المعاني خاصّة وهي عقوبة سلب النور منه و ذلك بحسب جزاء باطنه من حسد وكبر: فالحسد للخلافة والكبر على الحضرة الإلهية لذا كانت صفة الحسد نارية أمّا صفة الكبر فهي صفة برودة ...
فكلّ مرض هو حجاب عن عكس تلك الصفة المرضية فمتى كان العبد مثلا حقودا فاستبدل حقده بالعفو والتجاوز والمسامحة حتى تضحى صفات منطبعة فيه فهو يعاين فقه صفات الله تعالى المتعلّقة بالغفران والرحمة والتوبة وهكذا ...
لذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) أي سأكون صادّا لهم عن معرفتك سأقعد لهم على مستوى القلب كي أحجب عنهم أنوار صفاتك التي لا تدلّ إلاّ على ذاتك ...
فمتى استبدل العبد تلك الصفة الظلمانية بصفة النور يعلم حينها علما يقينيا حقيقة تلك الصفات فيكون عالما في دين الله تعالى وعندما نقول عالما في دين الله تعالى أي عارفا بطريق ربّه وهو الصراط المستقيم لأنّ معرفة الدين حقيقتها هي معرفة ربّ هذا الدين جل وعلا وهكذا في بقية عالم الصفات. لأنّ القلب له من الفقه فقه الصفات فمن لا قلب له لا يجوز له البتّة الحديث في عالم الصفات وإلاّ فإنّه سيكون من المجادلين في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
أمّا الروح ففقهها ذاتي وهذا بحر عميق يرعب الجبال ويصدّعها فضلا عن المخلوقات الضعيفة العاجزة فعندما تتحقّق أولى مراتب العلم في القلب وهي بداية اليقظة يخرج نوران هما نور واحد حقيقة ( نورهم يسعى بين أيديهم ) واحد إلى المشرق والثاني إلى المغرب كي يسير فيهما ونعني بالمشرق الروح والمغرب العقل وإن شئت عكستهما فهنا يسير العقل ويسير الروح في ظلّ نور القلب وهناك يبدأ التعليم فيأخذ العقل العلم بنوره يفسّره له القلب.
والروح أيضا لا تطغى إذ يوجّهها القلب لأنّ للروح أدب مع القلب الذي يوصلها بالعقل وللعقل أدب مع الروح يوصله القلب فيكون القلب جامعا وهو المرابط الذي لا ينام كما قال عليه الصلاة والسلام ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) وهو الميزان الوسطي الذي لا يشطّ ( ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) حتّى لا تميل كفّة على حساب أخرى بعد أن أخبره بصريح العبارة ( الرحمان على العرش إستوى ) وهو الميزان المستقيم والطريق القويم.
لذا كنت العبد الضعيف دائما ما أرشد العباد لأخذ علم الدين من أفواه أهل الله تعالى فهم العلماء حقيقة فإنّهم متى علّموك فسّروا لك الدين بنوره كما قال حنظلة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ( يا رسول الله عندما نكون عندك وتحدّثنا عن الجنّة والنار فكأنّما نراها رأي عين .... الحديث ) وهكذا هو كلام المكاشف فعندما يحدّثك عن الجنّة والنار فتوشك أن تراها لكثرة اليقين الذي يحصل في قلبك بسبب يقينه , وكذلك المشاهد فحينما يحدّثك عن الله تعالى فأنّك تراه ... ( أعبد الله كأنّك تراه ) وهذا لا يكون إلاّ عن طريق العارفين ..
يتبع إن شاء الله تعالى ...
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ).
إنّما بدأ سبحانه وتعالى في هذه الآية بذكر القلوب وفقهها فسبّقه على ما جاء بعده لأنّ ما بعده من لوازمه كما قال تعالى ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) فما قال له ( ولكنّهم لا يرونك ) بل قال ( لا يبصرون ) رغم أنّهم ينظرون إليه أي يرونه في صورته الظاهرة فوقع عليه نظرهم ولم يقع عليه بصر قلوبهم في صورته الباطنة بمعنى أنّهم محجوبون عنه فعلمنا هنا أنّ ( لهم أعين لا يبصرون بها ) والسبب هنا هو عدم ( فقه القلب ) فلو فقه القلب لرأت تلك الأعين وأبصرت.
حتّى أنّ إبليس لعنه الله تعالى سبقهم في النظر كما قال ( إنّي أرى ما لا ترون ) لمّا رأى جبريل مع مدد الملائكة كما سيرى الدجّال في آخر الزمان الملائكة على أبواب مكّة والمدينة فلا يستطيع دخولهما.
فنحن اليوم في زمن يكذَّب فيه الأولياء عندما يخبرون بكشفهم وبرؤيتهم للأرواح والملائكة رغم تصديقهم أحاديث نبوية وحقّ لهم ذلك في أنّ إبليس والدجال لعنهما الله تعالى يرون جبريل وميكائيل والملائكة.
فتبّا لعبد يصدّق برؤية إبليس والدجال للملائكة ويكذب أولياء أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم فيما يخبرون به بصدق وكشف, حتّى عدّ الوهابيون اليوم عالم الكشف من الخرافات والخزعبلات ثمّ يتصدّرون لنفع الناس بحسب زعمهم رغم أنّ جميع الصحابة ممّن حضر ذلك المجلس العلمي رأوا سيدنا جبريل في صورة إعرابي لمّا جاء يعلّمهم دينهم.
وقد أخبرني أحد ساداتنا من العارفين أنّه إلتقى سيّدنا جبريل عليه السلام في الحرم المكّي فما تردّدت لحظة في تصديقه لما هو عليه من صلاح وتقوى ومخافة لله تعالى رآه في صورة أعرابي بعصاه إزاء الكعبة , وليس المقصود في هذا مجرّد الرؤية أو الكشف وإنّما المقصود أنّه كيف عرف أنّ هذا جبريل وأنّ ما رآه من صورة أخرى في مكان آخر هو شيطان فهذا ما نسمّيه بـــ ( فقه القلوب ) الذي أخبرت عنه الآية وعليه دلّت.
لأنّ البصر والسمع لا يشتغلان حقيقة إلاّ متى فقه القلب أمر دينه وهو المعبّر عنه عند أهل الله تعالى بنور القلب الذي هو مزور القلب والعلم زائر فمن لم يسبق نوره علمه فلا يعتدّ به في طريق الله تعالى , لذا من سبق علمُه نورَه فلا يخلو علمه من كبوات وهذا للعلماء خاصة من أهل الظاهر ولو لا مخافة إساءة الأدب مع أهل الطريقة لذكرنا بعض مشائخ ممّن يسبق علمُهم نورهم , أمّا من سبق نوره علمه كسيدي ابن عباد وابن عجيبة وغيرهما رضي الله عنهما من كبار العارفين فعلمهم محمول وليس حاملا لأنّ العلم متى كان محمولا كان موهوبا.
كما قال تعالى ( إقرأ ) أي إقرأ فقط ونحن نفسّر لك بما عندك من النور الذي لا نفاذ له لذا قال له ( وقل رب زدني علما ) أي كي يحمله نوري فأفهمه ولا أطغى به بما أنّه لا يدلّني إلاّ عليك ولا ينيخ بي المطايا إلاّ بين يديك كما قال في حقّ أهل النور ومنهم الخضر ( وعلّمناه من لدنّا علما ) فهؤلاء وغيرهم عليهم السلام علمهم محمول وليس حاملا أمّا من حمل علمُه نوره فقلّ أن تسلم بصيرته من العمى ( وأضلّه الله على علم ) بسبب فقدانه النور .
لأنّ النور هو الإمام والعلم مأموم في هذا المقام من التعلّم فالعلم هو المصباح الكاشف ما أمامك في سيرك وإلاّ كبوت وسقطت في حفر الظلمة لذا قيل في الحكم العطائية مثلا بأنّها كادت أن تكون وحيا فسبب هذا القول أنّها نور على نور وكذلك قصيدة البوصيري المشهورة بالبردة و شروح أهل الله فهي نور على نور وذلك هو العلم النافع.
لذا ذهب جماعة ومنهم الإمام الشافعي والإمام مالك وغيرهما أنّ العلم نور ولا يعنون به أنّهما شيء واحد بل يريدون أنّ العلم متى خلا من نوره فلا يعتبر علما , فسلب إبليس النور وأبقي عليه العلم وكذلك الدجال لهذا كان الصراع بين النور والظلمة فحين أستعمل العلم خاليا من نوره ترى اليوم ما وصل إليه العلم كما قال تعالى ( ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ) أي من علم السحر سواء في الباطن أو الظاهر .
وإنّ من العلم الدنيوي ما هو نافع ومنه ما هو ضار فليس المنع في تعلّم العلم الظاهر من الصناعات وغيرها بل المحذور تعلّم ما يضرّ منه كصنع القنبلة النووية والقنابل العنقودية والكيميائية بأنواعها فهي فساد في الأرض والله لا يحبّ المفسدين لأنّ مؤسّس هذه العلوم كأنشتين وغيره من الفزيائيين ما هم إلاّ شياطين في الحقيقة وهم من اليهود وهذا ديدنهم ما عرفوا غير الفساد والإفساد ... لأنّ عليهم من الله غضبين.
قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) فالآية صريحة في بابها من حيث أنّ القلب له فقه والفقه لا بدّ فيه من وجود الإدراك والعلم كما قال عليه الصلاة والسلام ( من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين ) لذا أفرغ اليوم معنى حقيقة الفقه من موضوعه فظنّوا أنّ الفقه بمعناه الخاص والعام ما هو إلاّ معرفة الأحكام الفقهية العملية والتوسّع فيها وقد ضلّوا في ذلك ضلالا كبيرا.
لذا قال الله تعالى واصفا من لا فقه قلبي له في آخر الآية بأنّه ( أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فشبّههم بالأنعام بل هم أضلّ منها ثمّ أوضح بيان الخلل ووصف العلّة فقال ( أؤلائك هم الغافلون ) فمن لا فقه قلبي له فهو كالبهيمة فمتى كان عالما فهو كالحمار يحمل أسفارا ...
لأنّ القرآن وردت ألفاظه بحسب معنى كلّ حقيقة سواء في مستوى العقل أو القلب أو الروح, فمثلا إنّ ما يقابل العلم في مستوى العقل هو اليقظة في مستوى القلب , فعندما ترد لفظة ( الغفلة ) نعلم أنّها للقلب وعندما ترد لفظة ( الفقه ) في القرآن نعلم أنّها للقلب خاصّة أمّا متى وردت لفظة العلم فنعلم شموليتها وأنّها الحكم الجامع في المستويات الثلاثة العقل والقلب والروح وقد تأتي في مستوى بمفرده دون غيره كمستوى العقل وهي له خاصّة لأنّه الخليفة.
فالعقل مجاله عالم الحكم والخلافة وهو عالم التخصيص والظاهر أمّا القلب فهو للعبودية خاصّة كالأحوال والمقامات وهي للحال لذا في عالم الخلافة لا بدّ من تقييد أحوال القلب بميزان علم العقل بنوره حتّى لا يصبح أهل الديانة كلّهم من المجاذيب فيصبح الدين جذبا وهو باب للدروشة ودخول الشيطنة فإنّ إبليس لا يأتيك إلاّ متى تجرّد عقلك عن قلبك ومتى تجرّد قلبك عن عقلك لذا نصب له الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه العداء لمّا أراد أن ينفرد بقلبه دون عقله فخاطبه الشيخ بالعقل مع وجود نور القلب فخنس وانطفأت تلك الأنوار الكاذبة وذلك الصوت السماوي الخادع ...
فإذا علمت أنّ يوم القيامة هو يوم قلوب وهو يوم الحساب على المعاني قبل المباني تدرك أنّ ما كان باطنا هنا يكون ظاهرا هناك والعكس صحيح وقد أوضح النبيّ عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة الجامعة فقال ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب ) ومن جملة هذا الجسد العقل والعمل والفكر والحركات والسكنات لأنّ الأحاديث الشريفة قد تأتي على معنيين في نفس الوقت أي في الشريعة والحقيقة وهي هكذا غالبا لأنّها وحي والوحي أمره قلبي سماوي وروحي علوي وهكذا هو الدين.
لذا نقول اليوم : أنّ العالم بأسره إلاّ من رحم الله تعالى هو في عصر جاهلية كبرى وفي تلك الجاهلية سيخرج عليهم الدجّال وهو عصر الظلمة الحالكة لأنّ معنى الجاهلية ليس جاهلية العقول بل هي جاهلية القلوب لذا قلّ العلم في الناس اليوم رغم انتشار القلم الذي هو علامة من علامات اقتراب الساعة وهي من علامات آخر الزمان وقد ورد في الحديث ( يفشو العلم ) لأنّه زمن المعكوسات.
فإنّ إبليس لعنه الله تعالى يحاربنا في عالم الأديولوجيات فهو خبير في هذا الباب:
فأنشأ في العصور الأخيرة نموذجا آخرا بحسب سير الحضارات كالدروينية و الماركسية.
وأنشأ مثلا في الإسلام قديما فقه العقول المجردة من النور كالمعتزلة بالحسن والقبيح.
وأنشأ الخوارج بظواهر النصوص في مرتبة حكم القياس والعقل.
وأنشأ الشيعة في صفة الدفاع عن آل البيت ومحبتهم.
وأنشأ الوهابية دعاة وحماة التوحيد بحسب زعمه.
فهي كلّها فرق استنبطها الشيطان وتلك خططه وحيله لأنّ عالم الفتنة أكبر من القتل فمن عرف حبائل الشيطان فهم الكثير.
فالعلم أمره الحقيقي أمر قلبي وبداية التتلمذ وأخذ العلم يكون ببداية التزكية وهو علم التخلية تخلية القلب من الجهل المعنوي الحاجب كالحسد والحقد والغلّ وحبّ الدنيا والغرور والكبر ...إلخ.
لأنّ عقوبة هذه المعاصي هي عقوبات معنوية كإبليس لعنه الله تعالى عوقب في عالم المعاني خاصّة وهي عقوبة سلب النور منه و ذلك بحسب جزاء باطنه من حسد وكبر: فالحسد للخلافة والكبر على الحضرة الإلهية لذا كانت صفة الحسد نارية أمّا صفة الكبر فهي صفة برودة ...
فكلّ مرض هو حجاب عن عكس تلك الصفة المرضية فمتى كان العبد مثلا حقودا فاستبدل حقده بالعفو والتجاوز والمسامحة حتى تضحى صفات منطبعة فيه فهو يعاين فقه صفات الله تعالى المتعلّقة بالغفران والرحمة والتوبة وهكذا ...
لذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) أي سأكون صادّا لهم عن معرفتك سأقعد لهم على مستوى القلب كي أحجب عنهم أنوار صفاتك التي لا تدلّ إلاّ على ذاتك ...
فمتى استبدل العبد تلك الصفة الظلمانية بصفة النور يعلم حينها علما يقينيا حقيقة تلك الصفات فيكون عالما في دين الله تعالى وعندما نقول عالما في دين الله تعالى أي عارفا بطريق ربّه وهو الصراط المستقيم لأنّ معرفة الدين حقيقتها هي معرفة ربّ هذا الدين جل وعلا وهكذا في بقية عالم الصفات. لأنّ القلب له من الفقه فقه الصفات فمن لا قلب له لا يجوز له البتّة الحديث في عالم الصفات وإلاّ فإنّه سيكون من المجادلين في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
أمّا الروح ففقهها ذاتي وهذا بحر عميق يرعب الجبال ويصدّعها فضلا عن المخلوقات الضعيفة العاجزة فعندما تتحقّق أولى مراتب العلم في القلب وهي بداية اليقظة يخرج نوران هما نور واحد حقيقة ( نورهم يسعى بين أيديهم ) واحد إلى المشرق والثاني إلى المغرب كي يسير فيهما ونعني بالمشرق الروح والمغرب العقل وإن شئت عكستهما فهنا يسير العقل ويسير الروح في ظلّ نور القلب وهناك يبدأ التعليم فيأخذ العقل العلم بنوره يفسّره له القلب.
والروح أيضا لا تطغى إذ يوجّهها القلب لأنّ للروح أدب مع القلب الذي يوصلها بالعقل وللعقل أدب مع الروح يوصله القلب فيكون القلب جامعا وهو المرابط الذي لا ينام كما قال عليه الصلاة والسلام ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) وهو الميزان الوسطي الذي لا يشطّ ( ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) حتّى لا تميل كفّة على حساب أخرى بعد أن أخبره بصريح العبارة ( الرحمان على العرش إستوى ) وهو الميزان المستقيم والطريق القويم.
لذا كنت العبد الضعيف دائما ما أرشد العباد لأخذ علم الدين من أفواه أهل الله تعالى فهم العلماء حقيقة فإنّهم متى علّموك فسّروا لك الدين بنوره كما قال حنظلة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ( يا رسول الله عندما نكون عندك وتحدّثنا عن الجنّة والنار فكأنّما نراها رأي عين .... الحديث ) وهكذا هو كلام المكاشف فعندما يحدّثك عن الجنّة والنار فتوشك أن تراها لكثرة اليقين الذي يحصل في قلبك بسبب يقينه , وكذلك المشاهد فحينما يحدّثك عن الله تعالى فأنّك تراه ... ( أعبد الله كأنّك تراه ) وهذا لا يكون إلاّ عن طريق العارفين ..
يتبع إن شاء الله تعالى ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق