بسم الله الرحمان الرحيم -
جاء ذكر النفس في القرآن الكريم بعدّة معان ذكرها واستقصاها علماء اللغة خاصّة والمفسرون.
لكن ساداتنا الصوفية رضوان الله عليهم من كبار أولياء الله تعالى وكبار العارفين اهتمّوا بمعنى ( النفس ) الذي يزاحم التوحيد أو الذي يكون مانعا وقاطعا في طريق السالكين وصراط القاصدين الى معرفة ربّ العالمين سبحانه لهذا اهتمّوا رضي الله عنهم بشأن النفس وأمراضها التي تزاحم الربوبية وتعاند الألوهية وتقف عثرة في طريق السائلين.
فلمّا ألقى الله تعالى في باطني معرفة جزءا يسيرا من ألاعيبها وأساليبها عن طريق شيخنا رضي الله عنه العالم العارف بما تحويه النفوس من أمراض عويصة وتلبيسات عسيرة أردت أن أنفع إخواني السالكين من السائرين في هذا المجال وما غايتي إلاّ نفعهم ونفع المسلمين والله أعلم بنيتي وما أجري إلا على ربّ العالمين.
فأقول وعلى الله تعالى حبيب القلوب القبول :
قال تعالى ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ )
قال أهل العربية ( أمّارة ) صيغة مبالغة بخلاف قولنا ( آمرة ) أو ( تأمر بالسوء ) فصيغة المبالغة تلك توحي لنا كون ذلك السوء يكون به حياة النفس ويتم به نشاطها فكأنّه متنفّسها لهذا كانت أمّارة به ومصرّة على فعله أو الوصول إليه قال تعالى في حقّ بني إسرائيل من قوم سيدنا موسى عليه السلام وهم في غمرات تجلي نفوسهم وهم لا يشعرون ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ) فانظر قولهم ( لن نصبر على طعام واحد ) فكانت هذه بداية شهوات النفوس فلمّا اشتهت قالت ( فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْض ) فانظر الى سود أدبها مع الله تعالى ثمّ مع نبيّ الله تعالى عليه السلام كل هذا في سبيل الحصول على غرضها وشهوتها التي هي شهوة الأكل من غير أن تلتفت الى أدب أو تراعي حرمة فتدبّر خساسة همّتها وصبيانية مطالبها.
وإنّما سألت ( مما تنبت الأرض ) ولم ترض بما تنزل السماء من المنّ والسلوى فلأنّها أنفس أرضية تخلد في مطالبها وتطلعاتها دائما إلى الأرض ولا تعلو بهممها إلى السماء كالأنفس الشريفة العالية المنوّرة.
فهذه شهوة مأكول زائدة لا حاجة لهم بها فلو صبروا على المنّ والسلوى لكان خيرا لهم ناهيك عن واجب الاستلذاذ بأكله في كل وقت وحين لأنّه من عند الله تعالى كما أنّ هناك شهوة مركوب ومنكوح من نفس هذا الجنس أي الشهوات الزائدة التي تزيد عن الضرورة فهذه الثلاث شهوات لازمة في كلّ البشر لهذا وجب مجاهدتها فيها وهذا ما تراه في زهد السلف الصالح فقد زهدوا في الدنيا ولم يأخذوا منه إلاّ بقدر الضرورة لذا قال المؤرّخ ابن خلدون في مقدمته ( فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني ومابعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية ) المقبلون على الله تعالى الزاهدون في الدنيا.
لهذا ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قوله ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم ) لهذا أختصّ أهل التصوّف بالزهد في الدنيا ولو كانوا أغنياء كما كان من شأن أبي بكر رضي الله عنه فقد خرج من ماله ثلاث مرّات لأنّه لا يخشى الفقر كما قال ذلك الإعرابي لمن سأله عن عطاء النبي صلى الله عليه وسلّم ( إنّه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ) لكن هؤلاء أهل اليقين الكبير لا يجوز الاقتداء بهم إلاّ بحال صريح أو محبّة بالغة أو ابتلاء من واقع .. فافهم
لذا قرر الإمام الغزالي رضي الله عنه طريق المجاهدة بأنه : جوع مع عزلة وصمت ثمّ سهر فالجوع المعتدل كما قال عليه الصلاة والسلام ( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه ) فكثرة الأكل عادة غير محمودة وهي خلاف السنّة بل هي غير صحيّة قال تعالى ذاكرا مهر الطريق ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) فالجوع المعتدل وسيلة الغاية منه اضعاف النفس في خلودها الى الأرض والعروج بها الى لطافة المعنى.
ثمّ الصمت المتعيّن بغير ذكر الله تعالى لأنّ ذكر الله تعالى أو تذكير الناس وتعليمهم كلما وجب لا صمت فيه أو قول حقّ أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر كما ورد في الحديث ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) لأنّ الصمت زينة الفقير السالك كما قال قائل القاصدين ( ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل --- لا علم عندي وكن بالجهل مستترا ) قال تعالى ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) فهو وسيلة غايته بثّ روح التفكّر والتدبّر عند المؤمن الصادق والمريد السالك ..
قال تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فما قال تعالى يذكرون ثمّ يتحدّثون بل يتفكّرون لأنّ الذكر يستجلب الفكر لأنّ الحديث بغير ذكر الله تعالى أو ما له نسبة الى ذلك من مصالح وفوائد خاصّة أو عامّة هو لهو ولغو وشهوة نفس إسترسل أحد العارفين مرّة في الكلام فلمّا أطال قال إن للكلام لحلاوة ثمّ سكت وصمت لذا قال عليه الصلاة والسلام ( يا معاذ : وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) وإنّي العبد الفقير أستغفر الله تعالى من كلّ قول قلته ليس فيه خير وما أكثره فهو شيء عظيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
ثمّ العزلة عن الأشرار ومفارقة الأغيار وهي كما قالوا ظاهرة وباطنة لكن العزلة المقصودة هي بالنسبة للمبتدئين العزلة الظاهرة لأنهم ضعاف الميل بالقلوب لوجود النفوس قال عليه الصلاة والسلام في العزلة الظاهرة ( فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) فالعلمانيين فرقة أيضا من جملة الفرق يدعي أغلبهم الإسلام ويبطنون النفاق فهي فرقة دنيوية وجب اعتزالها لأنها لا تمثّل الإسلام ولا تحافظ عليه كما لا تحافظ على منافع المسلمين ومصالحهم الدينية والدنيوية.
قال تعالى مخبرا عن صوفية أهل الكهف ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ) فهذا اعتزال من أصحاب الكهف ظاهرا وباطنا وذلك في قولهم ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون ) فــ ( إذ اعتزلتموهم ) عزلة ظاهرة و ( وما يعبدون ) عزلة باطنة فالمقصود بالعزلة هو العزلة عن كل شيء يبعدك عن الله تعالى ولا يقربك منه أمّا العزلة الباطنة دون الظاهرة فهي خاصة بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام ثمّ بالأولياء العارفين المطالبون بدلالة الناس على خالقهم ومولاهم فهم في وظائف التربية والتزكية والإرشاد والتعليم ونفع البلاد والعباد ... فلولاهم لهلك الخلق كما قال تعالى ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ).
ثمّ السهر الذي هو ديدن المحبين في مناجاة رب العالمين قال تعالى ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ... ).
قال عليه الصلاة والسلام ( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد ).
قالت عائشة رضي الله عنها ( كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا ).
لهذا كابد ساداتنا في طريق الطاعة والسلوك المجاهدة في الذكر خصوصا في الربع الأخير من الليل وإنّي العبد الفقير ما ندمت على شيء في حياتي في مرضي هذا أكثر من ندمي على عدم قيام الليل في الذكر والتهجد حينما كنت في صحّة جيّدة
سمعت سيدي علي الراقوبي رضي الله عنه في مرض موته في مستشفى فرحات حشاد في مدينة سوسة سنة 1987 ميلادي يقول ( يا إخواني أذكروا الله تعالى ما دمتم في صحّتكم وقادرين على ذلك ).
فقيام الليل وردت فيه آيات بيّنات وأحاديث شريفة رضي الله تعالى عن الإمام الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين وكما قال الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله تعالى ( من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء ).
خرجت بهذا التفصيل الوجيز عن غرض الموضوع لأنّ الخاطر أخذني إلى هذا فنعود والعود أحمد فنقول وعلى الله تعالى القبول :
النفس عبارة عن عدوّ وفي نفس الوقت حبيب لك مقرب منك لكنه لا عقل له يريد أن يلقيك في المهالك فلا يمكنك أن تؤتيه قيادك ولا تسلمه عقلك وفكرك وروحك بل تأخذ بيده عن طريق الهدى من كتاب وسنّة إلى طريق الصواب بعد أن تلقيه في مشفى الصالحين وعند أطباء العارفين قال تعالى ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) فألقاك إلى مدارسهم ودلك على معالمهم فما أمرك أن تكون من الصادقين بداية بل أن تكون معهم كي يتحقق فيك وصف الصدق نهاية ..فهل رأيت طبيبا تخرّج في مارستان ؟
سنذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى مراتب كلّ نفس في درجتها من حيث عللها وآفاتها وتسويلاتها وألاعيبها بداية من المبتدئين إلى غاية الواصلين الذين سقطوا بعد أن عرفوا وسلبوا بعد أن أعطوا كإبليس لعنه الله تعالى والسامري ومن نحا منحاهم في السقوط بعد أن وصل وذاق لأنّه سلّم قياده الى نفسه ظنّا منه أنّه آمن مكر الله تعالى لذا كان عليه الصلاة والسلام من عظيم معرفته التي لا تكيف ولا تطاق يقول ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ).
وخصوصا سنركّز إن شاء الله تعالى على تسويلات النفس في عالم الملكوت لأني ما رأيت من شفا غليلي في هذا الموضوع لعلوّ همم العارفين أن يلتفتوا إلى نفوسهم رضوان الله عليهم قال سيدنا يعقوب ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا ) فلم يذكر لهم هذا الأمر لأنّهم يعلمونه كما علمه هو ومن هنا صار التنافس فيما بين أهل الأنوار فسلبوا بعضهم بعضا لأن غرضهم كان سلب يوسف لظنهم أنّ الأدنى يمكنه سلب الأعلى لكن الكمال والتقوى أن يتركوا أمرالمقامات لله تعالى كما تركها آدم عليه السلام فلم يسلب إبليس لعنه ىالله تعالى بسبب رفضه السجود إليه بل ترك الحضرة الإلهية تتصرّف في إبليس لعنه الله تعالى.
حكاية : كان لشيخنا رضي الله عنه فقيرا أساء معه الأدب جدّا فاتهمه بما لا يليق بسبب ظنونه الكثيرة لمرض قلبه فلمّا سألنا شيخنا رضي الله عنه مسامحته والتجاوز عنه قال شيخنا رضي الله عنه ( العبد الفقير سامحته لله تعالى لكن يجب أن تعلموا أنّ المرتبة لا تسامح ) فافهم فالنبي استغفر للمنافقين لكن الحضرة الإلهية أبت ذلك كي تعلم أن المرتبة لا تسامح ( فافهم ).
قال السامري ( قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ) فانظر قوله ( وكذلك سولت لي نفسي ) وقول يعقوب لبنيه ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا ) فكذلك السامري سوّلت له نفسه أمرا إلاّ أنّ بينهما فرق كبير أعني بين التسويل بالكفر والشرك وبين التسويل بطلب المقامات وإرادة سلبها عن الآخرين.
فتسويل النفس هو طلب وسؤال ما لا يحقّ لها وليس هو من نصيبها بل الأمان هو الرضا والتسليم التام كما قال إخوة يوسف عليه السلام ( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَك اللَّه عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ).
هذا كي أعلمك أن النفوس متى ظهرت كان لها إبليس بالمرصاد لذا قال لك تحقيقا لعنه الله تعالى يوم القيامة ( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ ) فقد عيّن لك مدخله منك فانظر علمه في قوله ( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ ) ومعرفته بالأمور لعنه الله تعالى لهذا توجّه ساداتنا الى مجاهدة النفس ولم يلتفتوا كثيرا الى الشيطان كما قال عليه الصلاة والسلام بخصوص قرينه ( ولكن الله أعانني عليه فأسلم ) لكنه في النفس يقول ( فلا تكلني إلى نفسي طرفه عين ) وكان يقول في استفتاح كل خطبة ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ..).
فهل تفكرت في محل النفس منك في جميع درجاتها أم أنّك غافل عنها ناسي لها كما غفل عنها إبليس من قبل والسامري ...
يتبع إن شاء الله تعالى ..
جاء ذكر النفس في القرآن الكريم بعدّة معان ذكرها واستقصاها علماء اللغة خاصّة والمفسرون.
لكن ساداتنا الصوفية رضوان الله عليهم من كبار أولياء الله تعالى وكبار العارفين اهتمّوا بمعنى ( النفس ) الذي يزاحم التوحيد أو الذي يكون مانعا وقاطعا في طريق السالكين وصراط القاصدين الى معرفة ربّ العالمين سبحانه لهذا اهتمّوا رضي الله عنهم بشأن النفس وأمراضها التي تزاحم الربوبية وتعاند الألوهية وتقف عثرة في طريق السائلين.
فلمّا ألقى الله تعالى في باطني معرفة جزءا يسيرا من ألاعيبها وأساليبها عن طريق شيخنا رضي الله عنه العالم العارف بما تحويه النفوس من أمراض عويصة وتلبيسات عسيرة أردت أن أنفع إخواني السالكين من السائرين في هذا المجال وما غايتي إلاّ نفعهم ونفع المسلمين والله أعلم بنيتي وما أجري إلا على ربّ العالمين.
فأقول وعلى الله تعالى حبيب القلوب القبول :
قال تعالى ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ )
قال أهل العربية ( أمّارة ) صيغة مبالغة بخلاف قولنا ( آمرة ) أو ( تأمر بالسوء ) فصيغة المبالغة تلك توحي لنا كون ذلك السوء يكون به حياة النفس ويتم به نشاطها فكأنّه متنفّسها لهذا كانت أمّارة به ومصرّة على فعله أو الوصول إليه قال تعالى في حقّ بني إسرائيل من قوم سيدنا موسى عليه السلام وهم في غمرات تجلي نفوسهم وهم لا يشعرون ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ) فانظر قولهم ( لن نصبر على طعام واحد ) فكانت هذه بداية شهوات النفوس فلمّا اشتهت قالت ( فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْض ) فانظر الى سود أدبها مع الله تعالى ثمّ مع نبيّ الله تعالى عليه السلام كل هذا في سبيل الحصول على غرضها وشهوتها التي هي شهوة الأكل من غير أن تلتفت الى أدب أو تراعي حرمة فتدبّر خساسة همّتها وصبيانية مطالبها.
وإنّما سألت ( مما تنبت الأرض ) ولم ترض بما تنزل السماء من المنّ والسلوى فلأنّها أنفس أرضية تخلد في مطالبها وتطلعاتها دائما إلى الأرض ولا تعلو بهممها إلى السماء كالأنفس الشريفة العالية المنوّرة.
فهذه شهوة مأكول زائدة لا حاجة لهم بها فلو صبروا على المنّ والسلوى لكان خيرا لهم ناهيك عن واجب الاستلذاذ بأكله في كل وقت وحين لأنّه من عند الله تعالى كما أنّ هناك شهوة مركوب ومنكوح من نفس هذا الجنس أي الشهوات الزائدة التي تزيد عن الضرورة فهذه الثلاث شهوات لازمة في كلّ البشر لهذا وجب مجاهدتها فيها وهذا ما تراه في زهد السلف الصالح فقد زهدوا في الدنيا ولم يأخذوا منه إلاّ بقدر الضرورة لذا قال المؤرّخ ابن خلدون في مقدمته ( فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني ومابعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية ) المقبلون على الله تعالى الزاهدون في الدنيا.
لهذا ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قوله ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم ) لهذا أختصّ أهل التصوّف بالزهد في الدنيا ولو كانوا أغنياء كما كان من شأن أبي بكر رضي الله عنه فقد خرج من ماله ثلاث مرّات لأنّه لا يخشى الفقر كما قال ذلك الإعرابي لمن سأله عن عطاء النبي صلى الله عليه وسلّم ( إنّه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ) لكن هؤلاء أهل اليقين الكبير لا يجوز الاقتداء بهم إلاّ بحال صريح أو محبّة بالغة أو ابتلاء من واقع .. فافهم
لذا قرر الإمام الغزالي رضي الله عنه طريق المجاهدة بأنه : جوع مع عزلة وصمت ثمّ سهر فالجوع المعتدل كما قال عليه الصلاة والسلام ( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه ) فكثرة الأكل عادة غير محمودة وهي خلاف السنّة بل هي غير صحيّة قال تعالى ذاكرا مهر الطريق ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) فالجوع المعتدل وسيلة الغاية منه اضعاف النفس في خلودها الى الأرض والعروج بها الى لطافة المعنى.
ثمّ الصمت المتعيّن بغير ذكر الله تعالى لأنّ ذكر الله تعالى أو تذكير الناس وتعليمهم كلما وجب لا صمت فيه أو قول حقّ أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر كما ورد في الحديث ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) لأنّ الصمت زينة الفقير السالك كما قال قائل القاصدين ( ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل --- لا علم عندي وكن بالجهل مستترا ) قال تعالى ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) فهو وسيلة غايته بثّ روح التفكّر والتدبّر عند المؤمن الصادق والمريد السالك ..
قال تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فما قال تعالى يذكرون ثمّ يتحدّثون بل يتفكّرون لأنّ الذكر يستجلب الفكر لأنّ الحديث بغير ذكر الله تعالى أو ما له نسبة الى ذلك من مصالح وفوائد خاصّة أو عامّة هو لهو ولغو وشهوة نفس إسترسل أحد العارفين مرّة في الكلام فلمّا أطال قال إن للكلام لحلاوة ثمّ سكت وصمت لذا قال عليه الصلاة والسلام ( يا معاذ : وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) وإنّي العبد الفقير أستغفر الله تعالى من كلّ قول قلته ليس فيه خير وما أكثره فهو شيء عظيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
ثمّ العزلة عن الأشرار ومفارقة الأغيار وهي كما قالوا ظاهرة وباطنة لكن العزلة المقصودة هي بالنسبة للمبتدئين العزلة الظاهرة لأنهم ضعاف الميل بالقلوب لوجود النفوس قال عليه الصلاة والسلام في العزلة الظاهرة ( فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) فالعلمانيين فرقة أيضا من جملة الفرق يدعي أغلبهم الإسلام ويبطنون النفاق فهي فرقة دنيوية وجب اعتزالها لأنها لا تمثّل الإسلام ولا تحافظ عليه كما لا تحافظ على منافع المسلمين ومصالحهم الدينية والدنيوية.
قال تعالى مخبرا عن صوفية أهل الكهف ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ) فهذا اعتزال من أصحاب الكهف ظاهرا وباطنا وذلك في قولهم ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون ) فــ ( إذ اعتزلتموهم ) عزلة ظاهرة و ( وما يعبدون ) عزلة باطنة فالمقصود بالعزلة هو العزلة عن كل شيء يبعدك عن الله تعالى ولا يقربك منه أمّا العزلة الباطنة دون الظاهرة فهي خاصة بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام ثمّ بالأولياء العارفين المطالبون بدلالة الناس على خالقهم ومولاهم فهم في وظائف التربية والتزكية والإرشاد والتعليم ونفع البلاد والعباد ... فلولاهم لهلك الخلق كما قال تعالى ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ).
ثمّ السهر الذي هو ديدن المحبين في مناجاة رب العالمين قال تعالى ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ... ).
قال عليه الصلاة والسلام ( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد ).
قالت عائشة رضي الله عنها ( كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا ).
لهذا كابد ساداتنا في طريق الطاعة والسلوك المجاهدة في الذكر خصوصا في الربع الأخير من الليل وإنّي العبد الفقير ما ندمت على شيء في حياتي في مرضي هذا أكثر من ندمي على عدم قيام الليل في الذكر والتهجد حينما كنت في صحّة جيّدة
سمعت سيدي علي الراقوبي رضي الله عنه في مرض موته في مستشفى فرحات حشاد في مدينة سوسة سنة 1987 ميلادي يقول ( يا إخواني أذكروا الله تعالى ما دمتم في صحّتكم وقادرين على ذلك ).
فقيام الليل وردت فيه آيات بيّنات وأحاديث شريفة رضي الله تعالى عن الإمام الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين وكما قال الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله تعالى ( من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء ).
خرجت بهذا التفصيل الوجيز عن غرض الموضوع لأنّ الخاطر أخذني إلى هذا فنعود والعود أحمد فنقول وعلى الله تعالى القبول :
النفس عبارة عن عدوّ وفي نفس الوقت حبيب لك مقرب منك لكنه لا عقل له يريد أن يلقيك في المهالك فلا يمكنك أن تؤتيه قيادك ولا تسلمه عقلك وفكرك وروحك بل تأخذ بيده عن طريق الهدى من كتاب وسنّة إلى طريق الصواب بعد أن تلقيه في مشفى الصالحين وعند أطباء العارفين قال تعالى ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) فألقاك إلى مدارسهم ودلك على معالمهم فما أمرك أن تكون من الصادقين بداية بل أن تكون معهم كي يتحقق فيك وصف الصدق نهاية ..فهل رأيت طبيبا تخرّج في مارستان ؟
سنذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى مراتب كلّ نفس في درجتها من حيث عللها وآفاتها وتسويلاتها وألاعيبها بداية من المبتدئين إلى غاية الواصلين الذين سقطوا بعد أن عرفوا وسلبوا بعد أن أعطوا كإبليس لعنه الله تعالى والسامري ومن نحا منحاهم في السقوط بعد أن وصل وذاق لأنّه سلّم قياده الى نفسه ظنّا منه أنّه آمن مكر الله تعالى لذا كان عليه الصلاة والسلام من عظيم معرفته التي لا تكيف ولا تطاق يقول ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ).
وخصوصا سنركّز إن شاء الله تعالى على تسويلات النفس في عالم الملكوت لأني ما رأيت من شفا غليلي في هذا الموضوع لعلوّ همم العارفين أن يلتفتوا إلى نفوسهم رضوان الله عليهم قال سيدنا يعقوب ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا ) فلم يذكر لهم هذا الأمر لأنّهم يعلمونه كما علمه هو ومن هنا صار التنافس فيما بين أهل الأنوار فسلبوا بعضهم بعضا لأن غرضهم كان سلب يوسف لظنهم أنّ الأدنى يمكنه سلب الأعلى لكن الكمال والتقوى أن يتركوا أمرالمقامات لله تعالى كما تركها آدم عليه السلام فلم يسلب إبليس لعنه ىالله تعالى بسبب رفضه السجود إليه بل ترك الحضرة الإلهية تتصرّف في إبليس لعنه الله تعالى.
حكاية : كان لشيخنا رضي الله عنه فقيرا أساء معه الأدب جدّا فاتهمه بما لا يليق بسبب ظنونه الكثيرة لمرض قلبه فلمّا سألنا شيخنا رضي الله عنه مسامحته والتجاوز عنه قال شيخنا رضي الله عنه ( العبد الفقير سامحته لله تعالى لكن يجب أن تعلموا أنّ المرتبة لا تسامح ) فافهم فالنبي استغفر للمنافقين لكن الحضرة الإلهية أبت ذلك كي تعلم أن المرتبة لا تسامح ( فافهم ).
قال السامري ( قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ) فانظر قوله ( وكذلك سولت لي نفسي ) وقول يعقوب لبنيه ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا ) فكذلك السامري سوّلت له نفسه أمرا إلاّ أنّ بينهما فرق كبير أعني بين التسويل بالكفر والشرك وبين التسويل بطلب المقامات وإرادة سلبها عن الآخرين.
فتسويل النفس هو طلب وسؤال ما لا يحقّ لها وليس هو من نصيبها بل الأمان هو الرضا والتسليم التام كما قال إخوة يوسف عليه السلام ( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَك اللَّه عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ).
هذا كي أعلمك أن النفوس متى ظهرت كان لها إبليس بالمرصاد لذا قال لك تحقيقا لعنه الله تعالى يوم القيامة ( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ ) فقد عيّن لك مدخله منك فانظر علمه في قوله ( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ ) ومعرفته بالأمور لعنه الله تعالى لهذا توجّه ساداتنا الى مجاهدة النفس ولم يلتفتوا كثيرا الى الشيطان كما قال عليه الصلاة والسلام بخصوص قرينه ( ولكن الله أعانني عليه فأسلم ) لكنه في النفس يقول ( فلا تكلني إلى نفسي طرفه عين ) وكان يقول في استفتاح كل خطبة ( نعوذ بالله من شرور أنفسنا ..).
فهل تفكرت في محل النفس منك في جميع درجاتها أم أنّك غافل عنها ناسي لها كما غفل عنها إبليس من قبل والسامري ...
يتبع إن شاء الله تعالى ..





0 التعليقات:
إرسال تعليق