بسم الله الرحمان الرجيم -
الحمد لله العليم
والصلاة والسلام على من قيل فيه ( رؤوف رحيم ) وعلى آله خلفاء النبوّة وصحبه خلفاء الرسالة
أما بعد :
لمّا جالت في خلدي آية قوله تعالى:
( وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ).
إنفتحت لقلبي مغالقها حتى كأنّي أنظر الى مشارقها ومغاربها من فيضان الواردات ووضوح الخفايا والإشارات فقوله تعالى: ( وإذ قال ربّك ) فيه توجيه الخطاب إليه بكاف المخاطب الحاضر الموجود وكأنّه يذكّره بتلك المرتبة التي أصل إيجاد هذا الإنسان , أي قوله :( وإذ قال ربّك ) بمحضر حقيقتك يا محمّد ,فدلّه على أن الخطاب في هذه الحالة ورد في حالة نسبة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى مولاه لذا جعل ضميره متّصلا به وكأنّ الخطاب ورد من حيث حقيقته المحمّدية لذا قرن بين إسمه الربّ وكاف المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلّم.
فذكر له قول الربوبية في حالة إتّصال الحقيقة المحمدية بها وتفسير ذلك أن الربوبية لا يقابلها من كلّ وجه غير العبودية من كلّ وجه وكأنّه يقول له : قال ربّ محمد بعد أن أكمل له عبوديته وجعله قائما به في عالم البقاء , فكان القول للملائكة ونسبة الخطاب في هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فكان توجيه الخطاب إليه والإخبار للملائكة بما فيه من حقائق فأراد تعريفهم في مقام لا يحسنونه بما حواه هذا الخليفة فحجبهم عنه من حيث أخبرهم به وإنما حجبهم لقوله:
( وإذ قال ربّك ) فكانت كاف المخاطب الواسطة بين الربّ والملائكة فكانت حجابا عن إدراك حظه من ربّه , وفي نفس الوقت حجبهم في إستفتاح الكلام بقوله :( ربّك ) فذكر لهم الربوبية قبل ذكره كاف المخاطب فحجبهم عن حقيقته المحمدية من حيث وجودها الأوّل وحجبهم عنها من حيث حظّها الثاني أي في التنزّل الأوّل والظهور الثاني.
فكانوا محجوبين عن ماهيات الخليفة قبل خلقه وبعده وكأنه يمنّ عليه بهذه النعمة التي لا تؤدّي شكرها غير الفناء فيه والبقاء به الذي أوضحه في الآية للملائكة فما إصطفاه إلا من أجل كمال عبوديته فلم ينفع قولهم: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك ) فذكروا عبوديتهم لغيبتهم عن حقيقة عبودية هذا الخليفة فلو أنهم علموا شأن عبوديته لله لما قالوا ذلك القول فكان مدحه في قوله:
( وإذ قال ربّك ).
عبودية الخليفة الأول , ومعلوم أن الربّ لا يخلق إلا العبد فمن كان أول العابدين فهو حتما أول مخلوق وقد ورد في القرآن أنه أول العابدين فصحّ أنه أول موجود لأن الربوبية لا يقابلها كما قدّمنا غير العبودية فما من مخلوق في السماوات والأرض إلا وهو عبد لله فأول عبد هو أول مخلوق.
ثمّ قوله ( ربّك ) ولم يقل " قال ربّهم " في هذه البداية من ذكر شأن الخليفة وكأنه جمع العبودية الكاملة في هذا الخليفة من حيث حقيقته المتصلة بالربوبية ولا تفارقها بحال من الأحوال , وإنّما قولنا متّصلة أي أنها تفتقد في ذاتها وصفاتها لهذا الربّ الذي به قامت وبه خوطبت وبه سمعت وعنه أدركت وفهمت فكانت في مثالها كأنها صفاتها من حيث قوله " وكنت بصره وسمعه ويده ورجله ".
لذا إنحجبت الملائكة إنحجابين , حجاب بالربّ عن حقائق هذا الخليفة لأن الربّ هو الخالق والرازق والنافع والضار , وحجاب بالخليفة عن إدراك حقيقة ذات هذا الربّ وشؤونه لأنه أول العابدين فقام مقام الخلافة ولا وصول الى الله إلا عن طريقه لذا وكأن الحقيقة المحمدية هي حجاب عن الله تعالى لذا عدّها السالكون مرحلة من مراحل السير ومن وقف معها دخل الجنّة في حلية الأنوار لا في حلية الأسرار.
وقوله تعالى:
(وإذ قال ربّك للملائكة ) أي أن الإخبار بالغيوب يحقّ للملائكة أو من كان على صورتهم التنويرية كالتي كان عليها إبليس لعنه الله فقد أخبره معهم وهو ليس من الملائكة وعليه فقد صحّ ما يخبر به أهل الله تعالى من حيث كمال تنويرهم لأنهم على الصفة الملكية وليسوا على الحقيقة الذاتية الملكية فكان الخطاب للوصف لا للذات لذا تبيّنت العصمة من حيث حقائق الملائكة الذاتية لهم وظهرت عدم العصمة لإبليس من حيث حقيقته الذاتية فصار الفرق ظاهرا والتمييز واضحا لذا لا عصمة لمن بعد الأنبياء والملائكة أبدا بل هناك الحفظ والحفظ له شؤونه وعلومه وهو لا يصل الى مقام العصمة وقد يقال لماذا إنتفى الحفظ عن إبليس رغم معرفته لذا قلت للحفظ علومه التي سنذكر طرفا منها متى شاء الله تعالى .
وهذا دليل على إمكانية إطلاع بعض عباد الله على أجزاء من علوم الغيب النسبي والتي والله لو فسّرت أفراده لظهرت أنوار جليلة وعلوم جميلة قل أن تسمع بها الآذان أو خطّها البنان.
ثمّ قال لهم :
( إني جاعل في الأرض خليفة ).
فما قال إني خالق في الأرض خليفة بل قال جاعل وذلك لكون الخليفة وصف وليس ذات فالخلق لا يكون إلا للذات مصاحبة للصفات , فما حكى لهم عن ذات هذا الخليفة لأنها ليست مرادة من خلقه بل المراد وصف خلافته فحجبتهم بشريّته عن أوصاف خصوصيته , وإنما أنحجبوا بالبشرية لما قدّم به ذكر الأرض عن ذكر الخليفة:
( إني جاعل في الأرض خليفة ).
فقدّم الأرض عن ذكر قوله ( خليفة ) فإنحجبوا بما تعطيه حقائق هذه الأرض عن ما تعطيه حقائق كلمة خليفة , لذا ما قالوا " أتجعل فيها خليفة " بل قالوا كما قال تعالى:
( أتجعل فيها ).
ولم يذكروا لفظة الخليفة بما إنحجبوا به من تسبيقه قوله تعالى: ( الأرض ) فما شاهدوا إلا بشريته وهذا ما شاهده إبليس أيضا لذا حكم بالخيرية في نفسه كما قال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) وكما قالت الملائكة وذكرت وصفها الذاتي وهو العصمة لشهودها وصف الخليفة الذاتي وإنحجبت عن حقيقته الألهية.
ثمّ في هذا الإخبار من الله لهم علموا بمجرّد هذا القول بعض الغيوب التي تتعلّق بشأن هذا الإنسان :
منها : أنهم علموا بأن هذا الإنسان سينزل إلى الأرض وأن خلقه يتمّ في الجنّة بدليل قولهم ( أتجعل فيها ) وما قالوا " أتخلق فيها " أو لعلمهم بما جمعوه من تراب من الأرض أن خلقه يتمّ في السماء لكنّهم علموا نزوله إلى الأرض في حلية تلك الحقيقة الترابية وهي الطين.
ومنها : علمهم بأن هذا المخلوق سيكون له ذريّة ونسل لذا قال : ( من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ) وسفك الدماء لا يكون إلا بين إثنين فأكثر وكذلك الإفساد.
ومنها : علمهم بأن هذا المخلوق سيكون من لحم ودم في قولهم ( يسفك الدماء ) وبأن مثواه الأخير بعد سفك هذا الدم هو الأرض.
ومنها : علمهم الكامل بطبيعة بشرية هذا الإنسان من حيث عناصره وطبائعه لأنهم جمعوا التراب له لما أمرهم الله بذلك.
ومنها : علمهم بما تعطيه تلك العناصر من ظلمة وإفساد وسفك دم أي أنها مخوّلة أن تفعل ذلك متى ما همّت بذلك.
ومنها : علمهم بعداوة إبليس لهذا الإنسان وإلا فكيف سيكون هناك سفك دم وإفساد.
ومنها علمهم بأن هذا الإنسان سيكلّف بالتكاليف الشرعية وأنه مخيّر فيها وليس بمسيّر وذلك في قولهم :
( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ).
فنسبوا الإفساد وسفك الدماء لهذا الإنسان فأخبروا بتخييره بين النور والظلمة.
ومنها : علمهم بأن الإنسان سيكفر في الأرض في قولهم ( من يفسد فيها ) والإفساد هو الكفر والشرك وهو أكبر الإفساد قال تعالى :
( لو كانت فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ).
فالإفساد لا يكون إلا بذهاب التوحيد.
والخلاصة أن قولهم إحتوى أمران :
الأمر الأول : غيرتهم على جناب الربوبية والتوحيد من أن يناله غير أهله وعلى هذا جبلوا لأنهم من جند الله وهذا واضح في قولهم ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وقولهم الذي هو عبارة عن توحيدهم ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) فما ذكروا غير عبوديتهم وهو أعلى مقاماتهم لذا ذكروه وما ظنوا أن هذا الخليفة ينال مقاما أعلى منهم في هذا التسبيح وهذا التقديس.
الامر الثاني : غيرتهم على الأخلاق الحميدة الكريمة التي جبلوا عليها لأنها من أخلاق الله تعالى فكان لا بد أن يكون هذا الخليفة متخلقا بتلك الأخلاق فغاروا من حيث ما تعطيه حقيقتهم الذاتية لا من حسدهم أو حقدهم كالتي كان عليها إبليس من حيث حقيقته الذاتية فما نطقوا إلا بالحقّ وما كشف لهم من أجزاء هذا الغيب لذا قالوا في الأخير:
( سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا ).
أي ما نطقنا إلا بما نلناه منك من العلم فدلّهم على وسع علمه وأنه لا يقيّد فيما علموه من حيث حقائق هذا الخليفة لذا كانوا يستغفرون لنا وهذا أمر آخر.
وبالنتيجة سنتكلّم قليلا في أدب الملائكة وسوء أدب إبليس بحسب ما يعطيه اللفظ :
- من حسن أدبهم أنهم لا يرون تمييزهم عن بعضهم فلا يجري عليهم هذا الخاطر لعصمتهم فما إعترضوا في قولهم من حيث مشاهدة خصوصياتهم بل من حيث غيرتهم على جناب التوحيد والأخلاق الكريمة وهذا ظاهر في قولهم بصيغة الجمع ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك ) فجمعوا أنفسهم في ضمير واحد لأن المقام يعطي ذلك فما رأوا تميّزهم عن هذا الخليفة بل بما علموه من إفساده في الأرض خلاف إبليس فقد شاهد نفسه في هذا المقام بقوله ( أنا خير منه ) فالفرق واضح.
- ما ذكروا ما أعطاه شهودهم من حيث تركيبة الإنسان الطبائعية وأنه مخلوق من الأرض بل ما ذكروا غير صفات القبح التي فيه والتي بها سيفسد في الأرض فما أرادوا بذلك القول شهود لطافتهم وتميّزهم بها على كثافة هذا الخليفة الظاهرة خلاف إبليس فقد شاهد ذلك وإعتبره من حيث حقيقته النارية الإبليسية فقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) ولو علم أن من خلق من نور وهو الملائكة أفضل منه لأنّ النور خير من النار وهو يعلم هذا لأنه صار من صفته النارية الى صفته النورانية فلو كانت النار خير من النور لكان العكس والسلوك الى مراتب الشيطان لا إلى مراتب الملائكة.
-أن الملائكة عبّرت عن كلّ ما أرادت بأدب الكناية لا التصريح إلا في مواضع وما أخبرت من الغيب الذي يخص هذا الإنسان إلا بما لا يخلّ بجانب التوحيد خلاف إبليس فإنه ذكر ما علمه بلسان العبارة والتصريح كقوله : لاحتنكنّ ذرّيته فأخبر بوجود الذريّة لأنه علم هذا عندما كان على صورته النورانية وكذلك قوله : فأنذرني إلى يوم يبعثون فأخبر بأنهم يبعثون وبيوم القيامة وطلب العداوة من الله لهذا الخليفة ولو علم ما معنى الخليفة لعلم أنه يحارب الله تعالى نعوذ بالله من السلب بعد العطاء " من آذى لي وليّا فقد آذنته بحرب " .
وإلى ما هنالك من هذه المعاني الكثيرة.
ثمّ أن الخطاب من الله تعالى يخصّ كوكب الأرض وكأنه مكان مقدّس لذا قال :
(إني جاعل في الأرض خليفة).
وكأنه مكان عظيم ذو قيمة ولذاك قالت الملائكة ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وكأنّها حرم آمن لا يجوز الإفساد وسفك الدماء فيه وهذا علمناه سابقا من حيث وجود بيت الله تعالى وقبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل علمناه أيضا من قول النبي صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا فحيثما أدركتكم الصلاة فصلّوا " وفيها وجود جبل عرفة ومناسك الحجّ والمسجد الأقصى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ) فلا يرى الآيات إلا العبد والقرآن : ( آيات بيّنات )...
الحمد لله العليم
والصلاة والسلام على من قيل فيه ( رؤوف رحيم ) وعلى آله خلفاء النبوّة وصحبه خلفاء الرسالة
أما بعد :
لمّا جالت في خلدي آية قوله تعالى:
( وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ).
إنفتحت لقلبي مغالقها حتى كأنّي أنظر الى مشارقها ومغاربها من فيضان الواردات ووضوح الخفايا والإشارات فقوله تعالى: ( وإذ قال ربّك ) فيه توجيه الخطاب إليه بكاف المخاطب الحاضر الموجود وكأنّه يذكّره بتلك المرتبة التي أصل إيجاد هذا الإنسان , أي قوله :( وإذ قال ربّك ) بمحضر حقيقتك يا محمّد ,فدلّه على أن الخطاب في هذه الحالة ورد في حالة نسبة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى مولاه لذا جعل ضميره متّصلا به وكأنّ الخطاب ورد من حيث حقيقته المحمّدية لذا قرن بين إسمه الربّ وكاف المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلّم.
فذكر له قول الربوبية في حالة إتّصال الحقيقة المحمدية بها وتفسير ذلك أن الربوبية لا يقابلها من كلّ وجه غير العبودية من كلّ وجه وكأنّه يقول له : قال ربّ محمد بعد أن أكمل له عبوديته وجعله قائما به في عالم البقاء , فكان القول للملائكة ونسبة الخطاب في هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فكان توجيه الخطاب إليه والإخبار للملائكة بما فيه من حقائق فأراد تعريفهم في مقام لا يحسنونه بما حواه هذا الخليفة فحجبهم عنه من حيث أخبرهم به وإنما حجبهم لقوله:
( وإذ قال ربّك ) فكانت كاف المخاطب الواسطة بين الربّ والملائكة فكانت حجابا عن إدراك حظه من ربّه , وفي نفس الوقت حجبهم في إستفتاح الكلام بقوله :( ربّك ) فذكر لهم الربوبية قبل ذكره كاف المخاطب فحجبهم عن حقيقته المحمدية من حيث وجودها الأوّل وحجبهم عنها من حيث حظّها الثاني أي في التنزّل الأوّل والظهور الثاني.
فكانوا محجوبين عن ماهيات الخليفة قبل خلقه وبعده وكأنه يمنّ عليه بهذه النعمة التي لا تؤدّي شكرها غير الفناء فيه والبقاء به الذي أوضحه في الآية للملائكة فما إصطفاه إلا من أجل كمال عبوديته فلم ينفع قولهم: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك ) فذكروا عبوديتهم لغيبتهم عن حقيقة عبودية هذا الخليفة فلو أنهم علموا شأن عبوديته لله لما قالوا ذلك القول فكان مدحه في قوله:
( وإذ قال ربّك ).
عبودية الخليفة الأول , ومعلوم أن الربّ لا يخلق إلا العبد فمن كان أول العابدين فهو حتما أول مخلوق وقد ورد في القرآن أنه أول العابدين فصحّ أنه أول موجود لأن الربوبية لا يقابلها كما قدّمنا غير العبودية فما من مخلوق في السماوات والأرض إلا وهو عبد لله فأول عبد هو أول مخلوق.
ثمّ قوله ( ربّك ) ولم يقل " قال ربّهم " في هذه البداية من ذكر شأن الخليفة وكأنه جمع العبودية الكاملة في هذا الخليفة من حيث حقيقته المتصلة بالربوبية ولا تفارقها بحال من الأحوال , وإنّما قولنا متّصلة أي أنها تفتقد في ذاتها وصفاتها لهذا الربّ الذي به قامت وبه خوطبت وبه سمعت وعنه أدركت وفهمت فكانت في مثالها كأنها صفاتها من حيث قوله " وكنت بصره وسمعه ويده ورجله ".
لذا إنحجبت الملائكة إنحجابين , حجاب بالربّ عن حقائق هذا الخليفة لأن الربّ هو الخالق والرازق والنافع والضار , وحجاب بالخليفة عن إدراك حقيقة ذات هذا الربّ وشؤونه لأنه أول العابدين فقام مقام الخلافة ولا وصول الى الله إلا عن طريقه لذا وكأن الحقيقة المحمدية هي حجاب عن الله تعالى لذا عدّها السالكون مرحلة من مراحل السير ومن وقف معها دخل الجنّة في حلية الأنوار لا في حلية الأسرار.
وقوله تعالى:
(وإذ قال ربّك للملائكة ) أي أن الإخبار بالغيوب يحقّ للملائكة أو من كان على صورتهم التنويرية كالتي كان عليها إبليس لعنه الله فقد أخبره معهم وهو ليس من الملائكة وعليه فقد صحّ ما يخبر به أهل الله تعالى من حيث كمال تنويرهم لأنهم على الصفة الملكية وليسوا على الحقيقة الذاتية الملكية فكان الخطاب للوصف لا للذات لذا تبيّنت العصمة من حيث حقائق الملائكة الذاتية لهم وظهرت عدم العصمة لإبليس من حيث حقيقته الذاتية فصار الفرق ظاهرا والتمييز واضحا لذا لا عصمة لمن بعد الأنبياء والملائكة أبدا بل هناك الحفظ والحفظ له شؤونه وعلومه وهو لا يصل الى مقام العصمة وقد يقال لماذا إنتفى الحفظ عن إبليس رغم معرفته لذا قلت للحفظ علومه التي سنذكر طرفا منها متى شاء الله تعالى .
وهذا دليل على إمكانية إطلاع بعض عباد الله على أجزاء من علوم الغيب النسبي والتي والله لو فسّرت أفراده لظهرت أنوار جليلة وعلوم جميلة قل أن تسمع بها الآذان أو خطّها البنان.
ثمّ قال لهم :
( إني جاعل في الأرض خليفة ).
فما قال إني خالق في الأرض خليفة بل قال جاعل وذلك لكون الخليفة وصف وليس ذات فالخلق لا يكون إلا للذات مصاحبة للصفات , فما حكى لهم عن ذات هذا الخليفة لأنها ليست مرادة من خلقه بل المراد وصف خلافته فحجبتهم بشريّته عن أوصاف خصوصيته , وإنما أنحجبوا بالبشرية لما قدّم به ذكر الأرض عن ذكر الخليفة:
( إني جاعل في الأرض خليفة ).
فقدّم الأرض عن ذكر قوله ( خليفة ) فإنحجبوا بما تعطيه حقائق هذه الأرض عن ما تعطيه حقائق كلمة خليفة , لذا ما قالوا " أتجعل فيها خليفة " بل قالوا كما قال تعالى:
( أتجعل فيها ).
ولم يذكروا لفظة الخليفة بما إنحجبوا به من تسبيقه قوله تعالى: ( الأرض ) فما شاهدوا إلا بشريته وهذا ما شاهده إبليس أيضا لذا حكم بالخيرية في نفسه كما قال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) وكما قالت الملائكة وذكرت وصفها الذاتي وهو العصمة لشهودها وصف الخليفة الذاتي وإنحجبت عن حقيقته الألهية.
ثمّ في هذا الإخبار من الله لهم علموا بمجرّد هذا القول بعض الغيوب التي تتعلّق بشأن هذا الإنسان :
منها : أنهم علموا بأن هذا الإنسان سينزل إلى الأرض وأن خلقه يتمّ في الجنّة بدليل قولهم ( أتجعل فيها ) وما قالوا " أتخلق فيها " أو لعلمهم بما جمعوه من تراب من الأرض أن خلقه يتمّ في السماء لكنّهم علموا نزوله إلى الأرض في حلية تلك الحقيقة الترابية وهي الطين.
ومنها : علمهم بأن هذا المخلوق سيكون له ذريّة ونسل لذا قال : ( من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ) وسفك الدماء لا يكون إلا بين إثنين فأكثر وكذلك الإفساد.
ومنها : علمهم بأن هذا المخلوق سيكون من لحم ودم في قولهم ( يسفك الدماء ) وبأن مثواه الأخير بعد سفك هذا الدم هو الأرض.
ومنها : علمهم الكامل بطبيعة بشرية هذا الإنسان من حيث عناصره وطبائعه لأنهم جمعوا التراب له لما أمرهم الله بذلك.
ومنها : علمهم بما تعطيه تلك العناصر من ظلمة وإفساد وسفك دم أي أنها مخوّلة أن تفعل ذلك متى ما همّت بذلك.
ومنها : علمهم بعداوة إبليس لهذا الإنسان وإلا فكيف سيكون هناك سفك دم وإفساد.
ومنها علمهم بأن هذا الإنسان سيكلّف بالتكاليف الشرعية وأنه مخيّر فيها وليس بمسيّر وذلك في قولهم :
( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ).
فنسبوا الإفساد وسفك الدماء لهذا الإنسان فأخبروا بتخييره بين النور والظلمة.
ومنها : علمهم بأن الإنسان سيكفر في الأرض في قولهم ( من يفسد فيها ) والإفساد هو الكفر والشرك وهو أكبر الإفساد قال تعالى :
( لو كانت فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ).
فالإفساد لا يكون إلا بذهاب التوحيد.
والخلاصة أن قولهم إحتوى أمران :
الأمر الأول : غيرتهم على جناب الربوبية والتوحيد من أن يناله غير أهله وعلى هذا جبلوا لأنهم من جند الله وهذا واضح في قولهم ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وقولهم الذي هو عبارة عن توحيدهم ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) فما ذكروا غير عبوديتهم وهو أعلى مقاماتهم لذا ذكروه وما ظنوا أن هذا الخليفة ينال مقاما أعلى منهم في هذا التسبيح وهذا التقديس.
الامر الثاني : غيرتهم على الأخلاق الحميدة الكريمة التي جبلوا عليها لأنها من أخلاق الله تعالى فكان لا بد أن يكون هذا الخليفة متخلقا بتلك الأخلاق فغاروا من حيث ما تعطيه حقيقتهم الذاتية لا من حسدهم أو حقدهم كالتي كان عليها إبليس من حيث حقيقته الذاتية فما نطقوا إلا بالحقّ وما كشف لهم من أجزاء هذا الغيب لذا قالوا في الأخير:
( سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا ).
أي ما نطقنا إلا بما نلناه منك من العلم فدلّهم على وسع علمه وأنه لا يقيّد فيما علموه من حيث حقائق هذا الخليفة لذا كانوا يستغفرون لنا وهذا أمر آخر.
وبالنتيجة سنتكلّم قليلا في أدب الملائكة وسوء أدب إبليس بحسب ما يعطيه اللفظ :
- من حسن أدبهم أنهم لا يرون تمييزهم عن بعضهم فلا يجري عليهم هذا الخاطر لعصمتهم فما إعترضوا في قولهم من حيث مشاهدة خصوصياتهم بل من حيث غيرتهم على جناب التوحيد والأخلاق الكريمة وهذا ظاهر في قولهم بصيغة الجمع ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك ) فجمعوا أنفسهم في ضمير واحد لأن المقام يعطي ذلك فما رأوا تميّزهم عن هذا الخليفة بل بما علموه من إفساده في الأرض خلاف إبليس فقد شاهد نفسه في هذا المقام بقوله ( أنا خير منه ) فالفرق واضح.
- ما ذكروا ما أعطاه شهودهم من حيث تركيبة الإنسان الطبائعية وأنه مخلوق من الأرض بل ما ذكروا غير صفات القبح التي فيه والتي بها سيفسد في الأرض فما أرادوا بذلك القول شهود لطافتهم وتميّزهم بها على كثافة هذا الخليفة الظاهرة خلاف إبليس فقد شاهد ذلك وإعتبره من حيث حقيقته النارية الإبليسية فقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) ولو علم أن من خلق من نور وهو الملائكة أفضل منه لأنّ النور خير من النار وهو يعلم هذا لأنه صار من صفته النارية الى صفته النورانية فلو كانت النار خير من النور لكان العكس والسلوك الى مراتب الشيطان لا إلى مراتب الملائكة.
-أن الملائكة عبّرت عن كلّ ما أرادت بأدب الكناية لا التصريح إلا في مواضع وما أخبرت من الغيب الذي يخص هذا الإنسان إلا بما لا يخلّ بجانب التوحيد خلاف إبليس فإنه ذكر ما علمه بلسان العبارة والتصريح كقوله : لاحتنكنّ ذرّيته فأخبر بوجود الذريّة لأنه علم هذا عندما كان على صورته النورانية وكذلك قوله : فأنذرني إلى يوم يبعثون فأخبر بأنهم يبعثون وبيوم القيامة وطلب العداوة من الله لهذا الخليفة ولو علم ما معنى الخليفة لعلم أنه يحارب الله تعالى نعوذ بالله من السلب بعد العطاء " من آذى لي وليّا فقد آذنته بحرب " .
وإلى ما هنالك من هذه المعاني الكثيرة.
ثمّ أن الخطاب من الله تعالى يخصّ كوكب الأرض وكأنه مكان مقدّس لذا قال :
(إني جاعل في الأرض خليفة).
وكأنه مكان عظيم ذو قيمة ولذاك قالت الملائكة ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وكأنّها حرم آمن لا يجوز الإفساد وسفك الدماء فيه وهذا علمناه سابقا من حيث وجود بيت الله تعالى وقبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل علمناه أيضا من قول النبي صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا فحيثما أدركتكم الصلاة فصلّوا " وفيها وجود جبل عرفة ومناسك الحجّ والمسجد الأقصى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ) فلا يرى الآيات إلا العبد والقرآن : ( آيات بيّنات )...
0 التعليقات:
إرسال تعليق