بسم الله الرحمان الرحيم
قال تعالى في حقّ سيّدنا الخضر عليه السلام ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
العلوم اللدنية كعلوم الخضر علوم جمعية من الحضرة الرحموتية فتسبق فيها الرحمة مطالب العلم فيخرج العلم في أحكامه على وفق تلك الرحمة الإلهية متى علمت أنّ استفتاح الوجود كان ببسم الله الرحمان الرحيم فسرت الرحمة في جميع العلوم الإلهية فحيثما حلّت الرحمة حلّ العلم معها وحيثما حلّ العلم حلّت الرحمة معه كما قال تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) فالرحمة والعلم لا يفترقان فالرحمة هي القلب والعلم هو العقل وقد خلق الله تعالى لك قلبا واحدا وعقلا واحدا كي يتألّف القلب مع العقل فهو صلاحهما وصلحهما فإنّ من أكبر الظلم للنفس هو افتراق القلب عن العقل فالقلب متى تنوّر تصالح معه العقل ولا بدّ فيصير في طي حكمه.
وإنّما أستفتحت سورة الكهف التي ذكرت فيها قصّة الخضر بالحمدلة ( الحمد لله ) لما تعطيه الحمدلة من التحقيق فهي من الحمد فكان إسم النبيّ عليه الصلاة والسلام من هذه الحيثية أحمد فهو إسم حقيقة وبه نطق عيسى عليه السلام ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) فهو إسم يدلّ على حقيقة ذات عبوديته عليه الصلاة والسلام بخلاف إسمه محمد فهو يدلّ على حقيقة صفاته النبوية الشريفة وما فيها من علوم ...
فقوله تعالى ( وقل رب زدني علما ) متوجه إلى إسمه أحمد خاصّة .. لهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة سورة الكهف كلّ يوم جمعة وكذلك بقراءتها أو آيات استفتاحها أو أواخرها حين خروج الدجال في آخر الزمان لأنّها سورة الحقيقة والتحقيق فذكر فيها قصة أهل الكهف وبه سميت السورة لأنّها كهف الحقيقة وفيها ذكرت قصة الخضر مع موسى وفيها ذكرت قصة ذي القرنين وكذلك أهل الصفّة ...إلخ فهي سورة أهل الولاية خاصّة وهي سورة المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان وأيضا فهي سورة عيسى بن مريم عليه السلام ففيها اسرار كثيرة تتعلق بشؤون عالم الولاية لا مزيد عليه .. فنزل القرآن على محمد وأنزل الكتاب على أحمد صلى الله عليه وسلّم فهو أحمد ومحمد وبالإسمين نطق القرآن صريحا كما سمي عبد الله تعالى ففي القرآن جميع مقاماته عليه السلام وأحواله ظاهرة للعيان إلاّ ما كان ممّا لا يطّلع عليه سواه ممّا اختصّ به صلى الله عليه وسلّم فصلى الله تعالى على سيّد الوجود وكعبة أهل الشهود وعلى آله الكرام البررة وصحابته الفخام الخيَرة ..
فافتخروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد أن قال ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر ) أي لا يمكنكم أن تجدوا من بني آدم من تفتخرون به أكثر منّي .. ( فافهم ) فمقام النبي من حيث الرحمة مقام صفاتي جامع ومن حيث العبودية مقام ذاتي فريد لا يصل إليه أحد ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ... أي أنّ مقامي مقام محبة فأنا الحبيب ..
قال تعالى ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين ) فذكر هنا وصفه القلبي خاصّة متى علمت أنّ الرحمة محلّها من الأعضاء القلب فذكره بوصفه الحقيقي وهو وصفه القلبي فكأنّ سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم جاءنا قلبا يمشي على رجلين فهو مقام صفاتي فإذا علمت هذا تعلم معنى قوله ( للعالمين ) لأنّ مقام الصفات مقام شمولي جمعي كما أنه مقام الخلافة في الأرض فالصفات للقلب فتلك حضرته ...
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فما قال مثلا ( آتيته رحمة من عندي ) أو ( علمته من لدنّي علما ) بل ذكر ذلك بصيغة جمع نحن وهي صيغة جمع الصفات التي هي للتعظيم.
فالله تعالى متى أراد سبحانه ذكر أمر من أمور صفاته ذكره بصيغة جمع نحن للتعظيم كقوله تعالى ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) فلو قال ( وإذ قلت للملائكة اسجدوا لآدم ) لفصلت الصفات عن الذات فأشركت الملائكة بالله تعالى وكفرت ( حاشاهم عليهم السلام ) بل الصفات الإلهية لا تنفصل عن الذات الإلهية أبدا كما أنّها لا تتصّل أبدا فلو انفصلت وقع الشرك ولو اتصلت وقع الكفر لذا قال المحققون من سادتنا الأشاعرة في الصفات لا هي منفصلة ولا هي متصلة وهذا أمر يحتاج إلى شرح لأنّ العقول الساذجة والبسيطة لا تفهم معنى قولهم هذا الذي هو في منتهى التحقيق وهو الحق من ربك .. إلخ.
فكانت علوم سيدنا الخضر عليه السلام علوم رحموتية رحمانية فهي من علوم شرع الحقيقة التي أنكرها موسى عليه السلام لا جهلا بها ولكن لثراء الحقائق وتعدد أوجه الحضرات والعلوم ولوقوف كلّ واحد من عباد الله تعالى عند ما اختصّه الله تعالى به وأقامه فيه من حكم ( واصبر لحكم ربك ) ..
لذا قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فذكر الرحمة قبل العلم فكانت قائدته لما سيفعله فكلّ علم لا تسبقه الرحمة فهو مردود لكونه على غير سبيل رسول الله الرحمة المهداة ولا نهجه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) ونعني هنا علوم القرآن التي هي علوم الدين بأركانه فهي علوم رحمانية وهكذا هي علوم أهل الله تعالى فهي علوم رحمانية كقولهم هذا وارد رحماني ..
لذا عبّرت الملائكة عن استغرابها وعجبها من كون هذا الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء وهو أمر مناف للرحمة التي هي أساس الخلافة الإلهية في الأكوان فذكروا عليهم السلام فعل الخلفية بينما ذكر الله تعالى لهم علمه .. وفي قصّة الخلافة التي ذكرها الله تعالى لنا في كتابه العزيز الكثير من الأسرار الإلهية والحقائق.
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ).
فسبقت رحمة الخضر علمه فحكم بها لأنّ مقامه مقام صفاتي قلبي وهو مقام الأولياء من أهل الله تعالى لهذا عدّوا الخضر من أهل الولاية بينما عدّه آخرون من الأنبياء وليس هذا بصحيح فيما نراه ونفهمه بل الخضر وليّ عليه السلام وهناك مباحث أدرجها من لا فقه لهم في الأحوال والمقامات لا تغني ولا تسمن من جوع ولا تشفي غليلا باعتبار كون النبي موسى عليه السلام لا يمكنه أن يتعلّم من ولي عارف وهذا قياس باطل ولا يعني هذا علوّ مقام الولي على مقام النبي بل الأمر كما هو محكوم به فالنبي نبي والولي ولي ولا يرتقي الأولياء مقامات الأنبياء فالمقام شيء والحال شيء ولكن التعليم شيء آخر بل قد يتعلم الأعلى من الأدنى فيما اختصه الله تعالى به فلو فرضنا كون الخضر نبيا لكان أيضا أدنى منزلة من موسى فلا يسقط الاشكال الذي فرضوه فإذا قالوا بكونه نبيا يسقط الاشكال وأن الاشكال في تعلم النبي من غير النبي فالجواب أن الأمر العام لا ينفي الأمر الخاص كصاحب سليمان ..
فاختص الله تعالى سيدنا الخضر بعلم خاص به لا يعلمه موسى ولا كلفه الله تعالى به ولا أطلعه عليه ولا يعني هذا أنّ علوم الخضر أعلى شأنا من علوم موسى التي اختصه الله تعالى بها فالحديث هنا عن الخصوصيات وليس في العموميات فأنت يمكنك أن تتعلم علوم الأحكام ولكن علوم الالهام من أين ستأتي بها إذا لم تسلك طريقها كما سلكه الخضر ..
فتوجّه تلك العلوم كما قدمنا توجه رحمانية بأهل الله تعالى من المستضعفين في الأرض لأنّهم وارثون فلا تجد الوارث الحقيقي إلاّ مستضعفا لذا يخرج المهدي في آخر الزمان بلا أنصار ولا زاد.
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ).
كانت علوم صفات كالكشف فهو من علوم الصفات وليست من علوم الأسماء ومن هنا ترى تمايز أحوال أهل الله تعالى في هذا العالم فترى ذلك على وجوههم وتشهده من أحوالهم فسبحان الله فكم ترى من وليّ وأنت تعلم أنّه وليّ وتشعر بالنبيّ الذي هو على قدمه كالشيخ الأكبر على قدم عيسى عليه السلام خاصّة رغم أنّه يشارك ذلك القدم أقدام أخرى فسبحان الله تعالى فمن لم يشهد في الأولياء علوم الأنبياء فهو كليل النظر ضرير البصيرة كما أنّه قد ترى نزعات من الجنّ والشياطين تلوح على وجوه بعض ممن انتسبوا إلى الطريقة فأخذوا بأحوال مائلة عن الصراط حائلة فيظنّهم من لا يعرفهم أنّهم من الأولياء والأمر ليس كذلك لهذا فإنّ حرب إبليس لعنه الله تعالى صارت خاصّة في علوم الصفات لذا قال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ) فالحديث واسع في هذا المجال ويطول تفصيله بدقائقه ..
فالكشف نوعان منه ما يقع في النوم وهو كشف الأنبياء والصالحين فهو نوع من الوحي ومنه ما يقع في اليقظة وهو أيضا نوع من الوحي ولا تكون درجة أهل الولاية فيهما كما هي عليه مرتبة أهل النبوّة بل درجة أهل النبوّة معصومة بخلاف أهل الولاية فلا عصمة لهم في كشفهم لا من حيث عدم صحّته ولكن من حيث كونه قابلا للتغيّر من حيث لوح المحو والإثبات فهذا خاص بالكمّل كما أنّه قد يكون في كشف المريدين قصورا أو بعضا من قصور كمن كشفت له عين قلبه فرأى الجنان والحركة فيها فحكم بحشر الأرواح دون حشر الأجساد فهو كشف قاصر كما ذكر الإمام سيدي عبد الوهاب الشعراني ذلك رضي الله عنه فكان الخطأ في الحكم بسبب قصور العلم في الكشف الصحيح لذا قعّد سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة للمريدين في قولته المشهور ( إذا خاف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فاترك الكشف جانبا واعمل بالكتاب والسنّة وقل إن الله ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف ).
فعلوم الرحمة دائما ما تكون لها نزعة قلبية وتوجه رحموتي كعلوم الخضر فالكشف من جنسها فإنّ الله تعالى لا يكشف لك عن شيء إلاّ بعد أن تتصفّى ذاتك وتتطهّر صفاتك حتى تتخلّق بالرحمة والشفقة على الناس وتعذر الناس فيما سبق به القضاء بقلبك وتقوم بمصالح العباد بما تتخلق به من كرم وجود وصدق ومحبة ..إلخ فإنّ علوم الصفات قرينة للرحمة فمن لم يتخلّق بالرحمة حتى تكون وصفا له لا ينال علوم الصفات المقول فيها في القرآن ( اتقوا الله ويعلمكم الله ) ( كلا لو تعلمون علم اليقين ) قال تعالى ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) لأنّ وصفه الرحمة الجامعة فحيثما وصلت رحمتك وصل علمك وقياس عليهما يكون خلقك فمن أوصاف النبي الأكرم صلى الله عليه وسلّم ( كان خلقه القرآن ) المقول فيه ( الرحمان علّم القرآن ).
فكانت علوم الخضر هي من جنس تلك العلوم الرحمانية ويتجسد ذلك في عذر الخضر لموسى حتى قال موسى عليه السلام ( قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا ) فما فارقه الخضر حتى سأل موسى ذلك بنفسه أدبا من موسى عليه السلام وحياءا منه غاية الأخلاق النبوية الموسوية وانما قال موسى ذلك لعلمه أنه ليس مرادا لتلك العلوم الخضرية ..
يتبع إن شاء الله تعالى ...
قال تعالى في حقّ سيّدنا الخضر عليه السلام ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )
العلوم اللدنية كعلوم الخضر علوم جمعية من الحضرة الرحموتية فتسبق فيها الرحمة مطالب العلم فيخرج العلم في أحكامه على وفق تلك الرحمة الإلهية متى علمت أنّ استفتاح الوجود كان ببسم الله الرحمان الرحيم فسرت الرحمة في جميع العلوم الإلهية فحيثما حلّت الرحمة حلّ العلم معها وحيثما حلّ العلم حلّت الرحمة معه كما قال تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) فالرحمة والعلم لا يفترقان فالرحمة هي القلب والعلم هو العقل وقد خلق الله تعالى لك قلبا واحدا وعقلا واحدا كي يتألّف القلب مع العقل فهو صلاحهما وصلحهما فإنّ من أكبر الظلم للنفس هو افتراق القلب عن العقل فالقلب متى تنوّر تصالح معه العقل ولا بدّ فيصير في طي حكمه.
وإنّما أستفتحت سورة الكهف التي ذكرت فيها قصّة الخضر بالحمدلة ( الحمد لله ) لما تعطيه الحمدلة من التحقيق فهي من الحمد فكان إسم النبيّ عليه الصلاة والسلام من هذه الحيثية أحمد فهو إسم حقيقة وبه نطق عيسى عليه السلام ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) فهو إسم يدلّ على حقيقة ذات عبوديته عليه الصلاة والسلام بخلاف إسمه محمد فهو يدلّ على حقيقة صفاته النبوية الشريفة وما فيها من علوم ...
فقوله تعالى ( وقل رب زدني علما ) متوجه إلى إسمه أحمد خاصّة .. لهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة سورة الكهف كلّ يوم جمعة وكذلك بقراءتها أو آيات استفتاحها أو أواخرها حين خروج الدجال في آخر الزمان لأنّها سورة الحقيقة والتحقيق فذكر فيها قصة أهل الكهف وبه سميت السورة لأنّها كهف الحقيقة وفيها ذكرت قصة الخضر مع موسى وفيها ذكرت قصة ذي القرنين وكذلك أهل الصفّة ...إلخ فهي سورة أهل الولاية خاصّة وهي سورة المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان وأيضا فهي سورة عيسى بن مريم عليه السلام ففيها اسرار كثيرة تتعلق بشؤون عالم الولاية لا مزيد عليه .. فنزل القرآن على محمد وأنزل الكتاب على أحمد صلى الله عليه وسلّم فهو أحمد ومحمد وبالإسمين نطق القرآن صريحا كما سمي عبد الله تعالى ففي القرآن جميع مقاماته عليه السلام وأحواله ظاهرة للعيان إلاّ ما كان ممّا لا يطّلع عليه سواه ممّا اختصّ به صلى الله عليه وسلّم فصلى الله تعالى على سيّد الوجود وكعبة أهل الشهود وعلى آله الكرام البررة وصحابته الفخام الخيَرة ..
فافتخروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد أن قال ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر ) أي لا يمكنكم أن تجدوا من بني آدم من تفتخرون به أكثر منّي .. ( فافهم ) فمقام النبي من حيث الرحمة مقام صفاتي جامع ومن حيث العبودية مقام ذاتي فريد لا يصل إليه أحد ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ... أي أنّ مقامي مقام محبة فأنا الحبيب ..
قال تعالى ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين ) فذكر هنا وصفه القلبي خاصّة متى علمت أنّ الرحمة محلّها من الأعضاء القلب فذكره بوصفه الحقيقي وهو وصفه القلبي فكأنّ سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم جاءنا قلبا يمشي على رجلين فهو مقام صفاتي فإذا علمت هذا تعلم معنى قوله ( للعالمين ) لأنّ مقام الصفات مقام شمولي جمعي كما أنه مقام الخلافة في الأرض فالصفات للقلب فتلك حضرته ...
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فما قال مثلا ( آتيته رحمة من عندي ) أو ( علمته من لدنّي علما ) بل ذكر ذلك بصيغة جمع نحن وهي صيغة جمع الصفات التي هي للتعظيم.
فالله تعالى متى أراد سبحانه ذكر أمر من أمور صفاته ذكره بصيغة جمع نحن للتعظيم كقوله تعالى ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) فلو قال ( وإذ قلت للملائكة اسجدوا لآدم ) لفصلت الصفات عن الذات فأشركت الملائكة بالله تعالى وكفرت ( حاشاهم عليهم السلام ) بل الصفات الإلهية لا تنفصل عن الذات الإلهية أبدا كما أنّها لا تتصّل أبدا فلو انفصلت وقع الشرك ولو اتصلت وقع الكفر لذا قال المحققون من سادتنا الأشاعرة في الصفات لا هي منفصلة ولا هي متصلة وهذا أمر يحتاج إلى شرح لأنّ العقول الساذجة والبسيطة لا تفهم معنى قولهم هذا الذي هو في منتهى التحقيق وهو الحق من ربك .. إلخ.
فكانت علوم سيدنا الخضر عليه السلام علوم رحموتية رحمانية فهي من علوم شرع الحقيقة التي أنكرها موسى عليه السلام لا جهلا بها ولكن لثراء الحقائق وتعدد أوجه الحضرات والعلوم ولوقوف كلّ واحد من عباد الله تعالى عند ما اختصّه الله تعالى به وأقامه فيه من حكم ( واصبر لحكم ربك ) ..
لذا قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) فذكر الرحمة قبل العلم فكانت قائدته لما سيفعله فكلّ علم لا تسبقه الرحمة فهو مردود لكونه على غير سبيل رسول الله الرحمة المهداة ولا نهجه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ( الرحمان علّم القرآن ) ونعني هنا علوم القرآن التي هي علوم الدين بأركانه فهي علوم رحمانية وهكذا هي علوم أهل الله تعالى فهي علوم رحمانية كقولهم هذا وارد رحماني ..
لذا عبّرت الملائكة عن استغرابها وعجبها من كون هذا الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء وهو أمر مناف للرحمة التي هي أساس الخلافة الإلهية في الأكوان فذكروا عليهم السلام فعل الخلفية بينما ذكر الله تعالى لهم علمه .. وفي قصّة الخلافة التي ذكرها الله تعالى لنا في كتابه العزيز الكثير من الأسرار الإلهية والحقائق.
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ).
فسبقت رحمة الخضر علمه فحكم بها لأنّ مقامه مقام صفاتي قلبي وهو مقام الأولياء من أهل الله تعالى لهذا عدّوا الخضر من أهل الولاية بينما عدّه آخرون من الأنبياء وليس هذا بصحيح فيما نراه ونفهمه بل الخضر وليّ عليه السلام وهناك مباحث أدرجها من لا فقه لهم في الأحوال والمقامات لا تغني ولا تسمن من جوع ولا تشفي غليلا باعتبار كون النبي موسى عليه السلام لا يمكنه أن يتعلّم من ولي عارف وهذا قياس باطل ولا يعني هذا علوّ مقام الولي على مقام النبي بل الأمر كما هو محكوم به فالنبي نبي والولي ولي ولا يرتقي الأولياء مقامات الأنبياء فالمقام شيء والحال شيء ولكن التعليم شيء آخر بل قد يتعلم الأعلى من الأدنى فيما اختصه الله تعالى به فلو فرضنا كون الخضر نبيا لكان أيضا أدنى منزلة من موسى فلا يسقط الاشكال الذي فرضوه فإذا قالوا بكونه نبيا يسقط الاشكال وأن الاشكال في تعلم النبي من غير النبي فالجواب أن الأمر العام لا ينفي الأمر الخاص كصاحب سليمان ..
فاختص الله تعالى سيدنا الخضر بعلم خاص به لا يعلمه موسى ولا كلفه الله تعالى به ولا أطلعه عليه ولا يعني هذا أنّ علوم الخضر أعلى شأنا من علوم موسى التي اختصه الله تعالى بها فالحديث هنا عن الخصوصيات وليس في العموميات فأنت يمكنك أن تتعلم علوم الأحكام ولكن علوم الالهام من أين ستأتي بها إذا لم تسلك طريقها كما سلكه الخضر ..
فتوجّه تلك العلوم كما قدمنا توجه رحمانية بأهل الله تعالى من المستضعفين في الأرض لأنّهم وارثون فلا تجد الوارث الحقيقي إلاّ مستضعفا لذا يخرج المهدي في آخر الزمان بلا أنصار ولا زاد.
قال تعالى ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ).
كانت علوم صفات كالكشف فهو من علوم الصفات وليست من علوم الأسماء ومن هنا ترى تمايز أحوال أهل الله تعالى في هذا العالم فترى ذلك على وجوههم وتشهده من أحوالهم فسبحان الله فكم ترى من وليّ وأنت تعلم أنّه وليّ وتشعر بالنبيّ الذي هو على قدمه كالشيخ الأكبر على قدم عيسى عليه السلام خاصّة رغم أنّه يشارك ذلك القدم أقدام أخرى فسبحان الله تعالى فمن لم يشهد في الأولياء علوم الأنبياء فهو كليل النظر ضرير البصيرة كما أنّه قد ترى نزعات من الجنّ والشياطين تلوح على وجوه بعض ممن انتسبوا إلى الطريقة فأخذوا بأحوال مائلة عن الصراط حائلة فيظنّهم من لا يعرفهم أنّهم من الأولياء والأمر ليس كذلك لهذا فإنّ حرب إبليس لعنه الله تعالى صارت خاصّة في علوم الصفات لذا قال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ) فالحديث واسع في هذا المجال ويطول تفصيله بدقائقه ..
فالكشف نوعان منه ما يقع في النوم وهو كشف الأنبياء والصالحين فهو نوع من الوحي ومنه ما يقع في اليقظة وهو أيضا نوع من الوحي ولا تكون درجة أهل الولاية فيهما كما هي عليه مرتبة أهل النبوّة بل درجة أهل النبوّة معصومة بخلاف أهل الولاية فلا عصمة لهم في كشفهم لا من حيث عدم صحّته ولكن من حيث كونه قابلا للتغيّر من حيث لوح المحو والإثبات فهذا خاص بالكمّل كما أنّه قد يكون في كشف المريدين قصورا أو بعضا من قصور كمن كشفت له عين قلبه فرأى الجنان والحركة فيها فحكم بحشر الأرواح دون حشر الأجساد فهو كشف قاصر كما ذكر الإمام سيدي عبد الوهاب الشعراني ذلك رضي الله عنه فكان الخطأ في الحكم بسبب قصور العلم في الكشف الصحيح لذا قعّد سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة للمريدين في قولته المشهور ( إذا خاف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فاترك الكشف جانبا واعمل بالكتاب والسنّة وقل إن الله ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف ).
فعلوم الرحمة دائما ما تكون لها نزعة قلبية وتوجه رحموتي كعلوم الخضر فالكشف من جنسها فإنّ الله تعالى لا يكشف لك عن شيء إلاّ بعد أن تتصفّى ذاتك وتتطهّر صفاتك حتى تتخلّق بالرحمة والشفقة على الناس وتعذر الناس فيما سبق به القضاء بقلبك وتقوم بمصالح العباد بما تتخلق به من كرم وجود وصدق ومحبة ..إلخ فإنّ علوم الصفات قرينة للرحمة فمن لم يتخلّق بالرحمة حتى تكون وصفا له لا ينال علوم الصفات المقول فيها في القرآن ( اتقوا الله ويعلمكم الله ) ( كلا لو تعلمون علم اليقين ) قال تعالى ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) لأنّ وصفه الرحمة الجامعة فحيثما وصلت رحمتك وصل علمك وقياس عليهما يكون خلقك فمن أوصاف النبي الأكرم صلى الله عليه وسلّم ( كان خلقه القرآن ) المقول فيه ( الرحمان علّم القرآن ).
فكانت علوم الخضر هي من جنس تلك العلوم الرحمانية ويتجسد ذلك في عذر الخضر لموسى حتى قال موسى عليه السلام ( قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا ) فما فارقه الخضر حتى سأل موسى ذلك بنفسه أدبا من موسى عليه السلام وحياءا منه غاية الأخلاق النبوية الموسوية وانما قال موسى ذلك لعلمه أنه ليس مرادا لتلك العلوم الخضرية ..
يتبع إن شاء الله تعالى ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق