بسم الله الرحمان الرحيم-
سمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: ( هناك بصيرتان بصيرة علمية وبصيرة يقينية ).
الباحث في الشأن القرآني هو على مستويين إمّا أنّه يبحث فيه بحثا ذهنيا أو أنّه يبحث فيه بحثا قلبيا ونحن في عرفنا لا يجوز بحث الظاهر من القرآن إلاّ بعد فهم الباطن منه لأنّ القرآن لم ينزل على الذهن بل نزل على القلب كما قال تعالى ( نزّله على قلبك ) وإنّما نسب فعل التنزيل لجبريل عليه السلام لأنّ القلب مرتبة وسطية بين الروح والعقل بمعنى أنّ عالم الملكوت وهو عالم النور هو الوسيلة لنزول القرآن على القلب وهو السبب فيه.
فلو لا أن أنزل القرآن على القلب وهو مرتبة وسطية لما أحسن أحد فهمه ولا سماعه من حيث حقائقه ولا أحسن أحد الإهتداء به في مرتبة العقل من حيث متشابهه أمّا من نزل القرآن على قلبه فهو لا يتبع متشابهه ولا يغلو في محكمه لذا قال تعالى ( فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ) فذكر هنا أنّ أصل العلّة كانت في القلب وهو الزيغ لأنّه لم ينزل على قلوبهم لعدم طهارتها كما نزل على النبيّ عليه الصلاة والسلام لذا قال تعالى في القرآن ( لا يمسّه إلاّ المطهّرون ) أي من تزكّى قلبه واطمأنّ.
ثمّ أنّه سبحانه تعدّى إلى ذكر أمر آخر أعلى وأرقى فقال تعالى: ( والراسخون في العلم يقولون آمّنّا به كلّ من عند ربّنا ) فما قال ( والعلماء أو أهل العلم يقولون ) بل قال تعالى ( والراسخون في العلم ) فمعنى الرسوخ ليس هو بنفس معنى العلم مجرّدا فهذا المعنى هو رسوخ القَدَمِ في حضرة القِدَمِ فهو يدور مع الحقّ حيثما دار لأنّه راسخ في العلم لا تغيّره الأحوال ولا تثنيه المقامات أو تقيّده ومعنى الرسوخ هو الصراط المستقيم الذي لا نهاية له.
يجب أن يعلم أنّ العلم القلبي هو علم بين علمين الأوّل علم الأذهان والثاني علم الروح فالقلب مرتبة علمية لها علاماتها وشروطها إنّما جعلها الله تعالى وفيها أنزل القرآن كي لا يضلّ به الإنسان فسبحان الله أحكم الحاكمين فكنّا نحن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم أمّة قلوب إذ من معاني القلب ليلة القدر ومن معانيها يوم الجمعة ومن معانيها الإستقامة بين الأحوال والمقامات لا يغلب هذا ذاك فلا ينفرد الروح بالتفسير ولا يضلّ العقل بالتحليل فكان القلب جامعا بين العقل والروح وفيه وقع النزال بين لمّة الملك ووسواس الشيطان فهو ساحة المعركة والحرب.
لذا كان إبليس لعنه الله تعالى عالما بجميع هذه المراتب بعد أن كابدها قبل أن يسلب ويطرد لذا قال ( لأغوينّهم أجمعين ) وما قال مثلا ( لأقتلنّهم أجمعين ) إذ ليس غايته القتل لمجرّد القتل فإنّ من يقتله الشيطان هو شهيد عند الله تعالى ولا يفرح إبليس لعنه الله تعالى لنا بالشهادة ولا بأيّة عبادة أو خصوصية ربانية وإنّما قصد الإغواء فهو كفيل بما يأتي كنتيجة كفتنة وقتل وحسد ...إلخ.
لذا ورد في الحديث النبوي أنّ الشيطان واضع منخره على قلب الإنسان متى ذكر الله تعالى ذلك العبد خنس الشيطان ومتى غفل وسوس , فإذا علمت هذا تعلم أيضا أنّ القلب ليس المقصود به تلك المضغة الدموية بل المقصود به معناها لذا قال عليه الصلاة والسلام ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت ... الحديث ).
لهذا شرّع الله تعالى سبلا وطرقا لحماية ذلك القلب وتطهيره وهي التزكية التي عمل على إحيائها أهل الله تعالى في كلّ مكان وزمان التي جاء بها الرسل عليهم الصلاة والسلام .
فالرسل لم يأتوا في الحقيقة لقتال أو منازعة على حكم أو دنيا أو غير ذلك ممّا ليس هو من الدين وإنّما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام كما في دعوة سيّدنا إبراهيم وهو قوله تعالى ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ).
فإنّ ما فيه الأولياء اليوم وقبل اليوم هو الدين الذي أرسل الله به سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام وإنّما شرّع الجهاد والقتال لحماية هذا الدين لذا لمّا سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمر رضي الله عنه فما سأله عن الجهاد أو القتال مثلا بل سأله عن الدين ( فافهم ) فإنّه قال ( هذا جبريل أتى يعلّمكم دينكم ).
فإنّ الدين هو كلّ ما له علاقة بالعبودية وإنّما فرض الجهاد وشرّع لحراسة هذه العبودية وتمكينها في الأرض لذا كان عليه الصلاة والسلام يقول وهو يدعو في غزوة بدر ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد اليوم ) فما كانت غايته غير نشر العبودية لله تعالى وانقاض العباد من براثن الشيطان فالجهاد لم يشرّع لذاته بل هو لغيره, بخلاف الدين بأركانه الثلاث فهو مشرّع لذاته.
لذا قال ساداتنا ومنهم سيدي ابن عجيبة الحسني رضي الله عنه أنّ العلوم الدينية المقصودة بالذات هي ثلاثة : علم الفقه وعلم الإيمان وعلم الإحسان أو تقول علوم الفقه وعلوم العقيدة وعلوم التصوّف أمّا خلاف هذا فهي علوم لغيرها وليست مقصودة لذاتها لذا ما سأل جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلاّ عمّا هو مقصود بذاته من الدين وهي مراتبه الثلاث : مرتبته في مستوى الظاهر ومرتبته على مستوى القلب ثمّ في مستوى الروح .
فإنّ من حيل إبليس لعنه الله تعالى هو قعوده صراط الله المستقيم وهو كما بينّا ( القلب ). وهناك واضعا منخره يبثّ ظلماته ويلقي وساوسه كما ألقاها للشعراء وإن كان من الشعر لحكمة كما ورد في الحديث ومن البيان لسحرا .
فأوّل سبل العلم ليست فقط بالدراسة والقراءة والكتابة بل أوّل سبيل في عرف أهل الله تعالى للتعلّم هو سبيل تطهير القلب كي يتعلّم هذا القلب ويدرس فيدخل مستويات التعليم كلّها بداية من الإبتدائي فلمّا كان الأمر كذلك كان لا بدّ من وجود أساتذة في هذا المجال.
وبما أنّ القلب جوهر لا ينقسم قيل بوجوب تعلّم هذا العلم على أستاذ واحد لأنّ عمليّة التعليم فيه تتغاير مع بقيّة التعاليم فإنّ الله تعالى لا يرسل غير رسول واحد يبلّغ ما يوحى إليه كما أرسل جبريل واحد لا كلّ الملائكة بالوحي لذا نبّهنا بقوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) إذ أنّ الجوف الواحد لا يحمل إلاّ قلبا واحدا وإنّما لم يتّخذ العبد إلاّ شيخا واحدا فلأنّ الجوهر لا يجوز فيه الإنقسام كالمرأة لا يجوز لها الزواج من زوجين في آن واحد.
فإذا قلت كيف يكون ذلك والقلب متعدّد الأحوال والصفات لما قيّد بالشيخ الواحد ؟
فالجواب : ولله المثل الأعلى أنّ القلب كما قيل بيت الربّ وأنّ هذا الربّ سبحانه متعدّد التجليات والصفات والأسماء ولكنّه ربّ واحد غير متعدّد وإن تعدّدت صفاته فالقلب متى توجّه إلى الله لا يتوجّه إليه بشرك أي بإثنينية بل هي وسيلة واحدة وطريق واحد وشيخ واحد وتعليم واحد , وهذا بداية التعليم.
بالنسبة للعلم فحقيقته أنّه للخصوصية للإستقامة في العبودية ولكن يجب مراعاة فهم العبودية في مراتب الخصوصية , وهكذا هو العلم فهو وإن كان يدلّ على المعلوم فهو يدلّ عليه من حيث مرتبتك عنده وهو التجلّي فإنّ العبودية أشمل معنى من مجرّد معنى العلم مهما تلوّن هذا العلم فكلّ علم أتحفك الله تعالى به فهو مقامك وهو مرتبتك فما عليك إلاّ بالعبودية فيه كما قال تعالى ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ).
فأنت تعلم أنّ التفضيل من مراتب الخصوصية وليس هو من العبودية في شيء إلاّ متى قام صاحبه بحقّ الأدب فيه فهو عبودية وإلاّ كان مثل إبليس لعنه الله تعالى فإنّ من علمه أنّه قال ( أنظرني إلى يوم يبعثون ) كي تعلم أنّه علم ببعثنا قبل خلقنا ووجودنا على الأرض , فكان لا بدّ لك أن تعلم أنّ الله تعالى هو العليم وبهذه الصفة أحاط بكينونات الأشياء ظاهرا وباطنا في جميع أطوارها قبل وجودها وبعدها إلى ما لا نهاية.
فلمّا علِمك قبل وجودك وبعده أضحيت في علم الله تسبح فكان لا بدّ لك من شعور بهذا العلم منه وهذا مقام جمالي وهو علمك المخصوص لك منه فهو مرتبتك فلا تتعدّاها بل قم بحقوق أوقات الآداب فيها لذا أشار سبحانه إلى هذا فقال تعالى: ( ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ) لأنّ الأماني لا تكون في عالم الخصوصيات وإنّما في عالم العبوديات تكون لهذا لم يقنطك أو يحرمك أو ينساك فأوصاك بسؤال الفضل منه فمازال متفضّلا كما قال سليمان عليه السلام بعد أن توجّه إليه سائلا من إسمه الوهّاب فقال ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ) فسأل الغفران قبل السؤال كي تعلم معرفة سليمان بربّه ومستواها.
ثمّ نشرع إن شاء الله تعالى في تفسير المرتبة الأولى من مراتب القلب وهو قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فعيّن هنا سبحانه أنّ مرتبة القلب ليست خاصّة ببني البشر بل أيضا بالجنّ وأن سبب دخول نار جهنّم بداية هو شيء إسمه ( القلب ) لذا قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) فهذا السبب الرئيسي وهو السبب الجامع لأنّ القلب متى فقه فهو حتما سيرى لذا قال تعالى:( ولهم أعين لا يبصرون بها ) لأنّ العين الباصرة هي غير عين البصيرة لذا لم يقل سبحانه: ( ولهم عينان لا يبصرون بها ) بل قال ( أعين ) لأنّه القلوب متى ذكرت فلجمعها إمّا لتآلفها على حقّ واحد كقلب واحد أو تشابهها في أمراض كثيرة ذكرت العينان بصفة الجمع كذلك والأذنين ).
وقد يقال: لماذا لم يذكر العقل في هذه الآية؟
الجواب: أنّ الأمر مترابط جدّا فلو ذكر العقل لذكر القياس وهو للفكر لأنّ السمع والبصر هما للمكالمة والمشاهدة والقلب هو العاكس لكليهما كي تعلم أنّ القرآن كلّه علم ونور وحكمة واعجاز من كل وجه وهو الحقيقة والصدق المطلق كما قال تعالى ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) وأنت تعلم أنّ مجال التدبّر هو القلب كما قال تعالى ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فالقلب هو مفتاح التدبّر وهو بابه وعندها يتبع البصر والسمع.
لهذا قال عليه الصلاة والسلام في قوم يخرجون آخر الزمان أنّ من صفاتهم ( فما ذكر غير الظاهر من صفاتهم وما ذكر منهم من الباطن في شيء ) أنّهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم أي حناجرهم وما أكثرهم في هذا الزمان فهي السلعة الرائجة اليوم.
ومرّة كنت أقرأ كتابا في الرقائق لشيخ وهابي مشهور على الشاشات فحزنت كثيرا كثيرا كيف أنّ الدين وصل في عقولهم إلى هذا الحدّ من السطحية وقلّة الوعي والفهم وقلّة وجود النور والعلم فضلا عن الأحوال والمعارف والمقامات ثمّ يتصدّرون لقيادة الأمّة الإسلامية تحت راية الفصاحة والظواهر الصوتية الصورية.
وفي هذا الباب سنذكر إن شاء الله تعالى : سبب دخول الخلق جهنّم من حيث القلب وكيف أنّ كثيرا من أهل القلوب من العوام هم أفضل بكثير ممّن يسمّونهم النخبة الدينية في الحقل الدعوي وأنّ كثيرا من الوزراء والإداريين في مجال الحكم أصحاب قلوب عزيزة طيّبة الناس يبغضونهم ترى هذا بعين بصيرتك متى رمته فهذا العبد الضعيف لا يحكم إلاّ بما تعطيه بصيرتي فإن أخطأت فذلك اجتهادها وإن أصابت فذلك من فضل الله تعالى وسأحاول بالقدر المستطاع أن أفهم بعضا ممّن يقرؤون لي بعض المفاهيم وكيفية تجلية العلم والفراسة بالقدر المستطاع.
لهذا السبب وهو سبب مرض القلوب ألّف الإمام الحجّة سيدي أبو حامد الغزالي رضي الله عنه كتابه الإحياء الذي يعدّ آية من آيات الله تعالى فقال : لمّا رأيت الناس أصيبت في قلوبها ألّفت لهم كتاب الإحياء ( إحياء علوم الدين ) فما ذكر فيه إلاّ المقصود بالذات من الدين خاصّة.
وما غايتي فيما أكتب إلاّ نفع أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم.
هذا وليعلم الجميع أنّ العبد الضعيف لست عالما في اللغة العربية ولا لي فيها قدم وإنّما هي معان ترد على قلبي هكذا أجدها فأسطّرها كما هي فسواء عبّرت عنها باللغة الدارجة وهذا أستعمله كثيرا بين إخوة لي أمّا متى كتبت في المنتديات فأكتب بحسب طاقتي ونهاية ما أستطيعه لذا أرجو ممّن يتابع أن لا يقرأ لي ماسكا موضوعي بيده اليسرى وكتاب سيبويه باليمنى.
لا أقصد أحدا بعينه وإنّما هو اعتراف منّي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق