السؤال السابع :
ان طال صمت الشيخ الكامل عن مريده فلا هو عنفه عن تقصير ولا زجره وقسى عليه من ذنب ارتكبه وطال الامر فلا هو اطلعه على عيوبه ولا كلمه في حاله فهل هذا اشارة منه بان لا ثمرة ترجى منه ؟
الجواب والله تعالى أعلم ورسوله :
أشكرك سيدي فارس النور الفاضل على أسئلتك النيّرة التي هي أسئلة طالبي السلوك إلى حضرة ملك الملوك ( عند مليك مقتدر ).
قلت :
صمت الشيوخ في حقيقته كلام نافع صادر من حضرات أنوار تربيتهم , فالصمت عند أهل الإرشاد هو كلام تربوي لمن فهم عنهم وربّما كان الصمت أبلغ علاج من الكلام اللساني , وصمت الشيخ لا يعني عدم كلامه , بل قد يكلّمك كلّ يوم من الصبح إلى المساء وقلب الفقير لا يسمع , وإنّما جاءهم هذا الحال في التربية متخلّقين بأخلاق مولاهم فإن الله تعالى في تربيته لعبيده ما عيّن أسماءهم بالإسم واللقب والبلد والجنسية رغم علمه كافة بهم : كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ).
فهو سبحانه عند هذا القول وقبله وبعده يعلم بكلّ ذات بشرية مرادة بهذا القول ظاهرا وباطنا فهو يريد أعيانا موجودة حاضرة وأخرى كانت في الماضي وأخرى ما تزال في طي غيب المستقبل فخاطب كلّ واحد منهم بعينه في هذه الآية وهذه الآية وغيرها من أحكام التربية , لأنّ علم التربية وشؤونه يعطي الكلام العام والصمت الخاصّ فتظنّ بأن الشيخ ما كلّمك وهو في الحقيقة يكلّمك من غير كلام لأنّ الكلام فيه وحشة ويفسد التربية قال سيدي أبو الحسن الشاذلي : ( نحن نربّي أولادنا بالنظر كما تربّي السلحفاة أولادها بالنظر ) أي لا نربّيهم بالكلام بل بمجرّد النظر لأنّهم أهل نظرة.
أمّا أنّ الشيخ لا يكلّم المريد في عيوبه ؟
فالأمر حاصل بأن المريد عارف بمعاصيه الظاهرة والباطنة في الأغلب ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ).
فلماذا يريد من الشيخ أن يكلّمه فيها وهو يعلم أغلبها , ثمّ إن الشيخ لا يربّي بكشف عيوب وعورات مريديه بل يربّيهم بسترها كي لا تقع وحشة بين المريد والشيخ فتفسد تربيته ويهلك مع الهالكين بل إنّ الشيخ يقرّبه ويدنيه منه ومن ثمّ يشرع في علاجه ومداواته والشيخ يضحك معه ولا يظهر له عيبا.
ومثال ذلك كالطبيب متى قدم عليه مريض وعاين خطورة مرضه فإنّه لا يكاشفه به بل يضحك معه ويهوّن عليه من مرضه ويرفع له من معنوياته حتى يصبح ذلك الفعل نصف العلاج ...إلخ.
وكذلك فلاحظ كيف أن الإنسان وقبل أن تجرى له عملية جراحية كيف يلاطفه الطبيب أو الممرّض حتى يبنّجه من حيث لا يشعر المريض , ولا تجد في وجه الطبيب غير إبتسامته المعهودة مع المريض ولو كان هذا المريض على عتبات الآخرة.
فالأحرى بمشائخ التربية أن يكونوا حكماء زمانهم وأطبّاء وقتهم بخصوص أمراض النفس والقلب والعقل والروح.
أمّا المريد الذي يريد أن يتكلّم معه شيخه ويحيطه علما بعيوبه و و..إلخ فهو في هذه الحالة أصبح الشيخ وجعل في المقابل شيخه مريدا وكأنّه يأمره وينهاه وذلك بأن يجبره بقلبه على الكلام معه والحديث في خصوصياته ...إلخ.
فهذا لا يستقيم مع التربية وشؤونها والناظر في تربية النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه يرى جميع مناهج التربية ونظريّات مشائخ التصوّف فيها فإن لكلّ شيخ نظريّة في التربية تختلف بإختلاف المكان والزمان لأنّ أمراض كلّ زمان وكلّ مكان لا تكون مثل ما مرّ ومضى من الأمراض رغم أنّها كلّها أمراض قال تعالى ( تشابهت قلوبهم ) فهي تشابهت فقط وبقي إختلاف المرض بحسب القلّة والكثرة والنوع والكيف.
وعلوم التربية علوم عظيمة كبيرة طويلة دقيقة ومن كلّفه الله تعالى بهذه الوظيفة لا يجوز عليه قطعا الإعتراض عليه لا ظاهرا ولا باطنا وهذا شرط لذبح النفس وموتها.
فليس فرضا أن يكون الفقير لا يرجى منه شيء بمجرّد أنّ شيخه لم يكلّمه في عيوبه وذنوبه وصمت معه صمتا طويلا فهذه مقاييس عقلية ما أبعد تفكير الشيخ عنها.
بل الواجب في حقّ المريد الإنقياد لشيخه ظاهرا وباطنا.
وكم إعترضت بقلبي على شيخي رضي الله عنه وأسأت الأدب معه ظاهرا وباطنا حتى أنّه قال لي مرّة ( يا سيدي أتريد أن تتدخّل في علوم تربيتي للمريدين فتعال إعمل لنا شيخا وخلّصنا ) كلام هذا معناه.
ومرّة قلت له قولا يخصّ المعرفة فقال لي ( هذا الذي تقول يا سيدي خاطر شيطاني ) فسكتّ حتى خجلت لأن الشيخ يعرف حضرات الكلام.
ومرّة قال لي : ( المريدون في كفّ الشيخ مثل حبّات قمح في كفّ صاحبها ).
ومرّة قلت له يا سيدي أخبرني في حالي فقد سئمت فأجابني بقوله ( إصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس ).
فما وافقني شيخنا يوما على أمر بل لا يفعل إلا خلاف ما قصدت لأنّه كان يعلم خبث نفسي وتلوّن داهياتها فكان رضي الله عنه لها بالمرصاد فالحمد لله.
فعزمت أن لا أعترض على شيخي رضي الله عنه وأكتفي بنظره عن نظري وبعلمه عن علمي وما أنا إلا منتسب إلى فقرائه وأرجو أن تشملني معهم الرحمة.
ومن عرف الشيوخ بكى دما على تواضعهم في قلوبهم وكثرة رحمتهم بالمريدين وشدّة عنايتهم بهم أما عن كرمهم معهم فحدّث ولا حرج فهم أهل الجود والكرم الظاهري والباطني.
فالحمد لله على محبّتنا لشيوخنا وإخواننا فإنّها منّة من الله عظيمة.
والسلام
يتبع...
ان طال صمت الشيخ الكامل عن مريده فلا هو عنفه عن تقصير ولا زجره وقسى عليه من ذنب ارتكبه وطال الامر فلا هو اطلعه على عيوبه ولا كلمه في حاله فهل هذا اشارة منه بان لا ثمرة ترجى منه ؟
الجواب والله تعالى أعلم ورسوله :
أشكرك سيدي فارس النور الفاضل على أسئلتك النيّرة التي هي أسئلة طالبي السلوك إلى حضرة ملك الملوك ( عند مليك مقتدر ).
قلت :
صمت الشيوخ في حقيقته كلام نافع صادر من حضرات أنوار تربيتهم , فالصمت عند أهل الإرشاد هو كلام تربوي لمن فهم عنهم وربّما كان الصمت أبلغ علاج من الكلام اللساني , وصمت الشيخ لا يعني عدم كلامه , بل قد يكلّمك كلّ يوم من الصبح إلى المساء وقلب الفقير لا يسمع , وإنّما جاءهم هذا الحال في التربية متخلّقين بأخلاق مولاهم فإن الله تعالى في تربيته لعبيده ما عيّن أسماءهم بالإسم واللقب والبلد والجنسية رغم علمه كافة بهم : كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ).
فهو سبحانه عند هذا القول وقبله وبعده يعلم بكلّ ذات بشرية مرادة بهذا القول ظاهرا وباطنا فهو يريد أعيانا موجودة حاضرة وأخرى كانت في الماضي وأخرى ما تزال في طي غيب المستقبل فخاطب كلّ واحد منهم بعينه في هذه الآية وهذه الآية وغيرها من أحكام التربية , لأنّ علم التربية وشؤونه يعطي الكلام العام والصمت الخاصّ فتظنّ بأن الشيخ ما كلّمك وهو في الحقيقة يكلّمك من غير كلام لأنّ الكلام فيه وحشة ويفسد التربية قال سيدي أبو الحسن الشاذلي : ( نحن نربّي أولادنا بالنظر كما تربّي السلحفاة أولادها بالنظر ) أي لا نربّيهم بالكلام بل بمجرّد النظر لأنّهم أهل نظرة.
أمّا أنّ الشيخ لا يكلّم المريد في عيوبه ؟
فالأمر حاصل بأن المريد عارف بمعاصيه الظاهرة والباطنة في الأغلب ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ).
فلماذا يريد من الشيخ أن يكلّمه فيها وهو يعلم أغلبها , ثمّ إن الشيخ لا يربّي بكشف عيوب وعورات مريديه بل يربّيهم بسترها كي لا تقع وحشة بين المريد والشيخ فتفسد تربيته ويهلك مع الهالكين بل إنّ الشيخ يقرّبه ويدنيه منه ومن ثمّ يشرع في علاجه ومداواته والشيخ يضحك معه ولا يظهر له عيبا.
ومثال ذلك كالطبيب متى قدم عليه مريض وعاين خطورة مرضه فإنّه لا يكاشفه به بل يضحك معه ويهوّن عليه من مرضه ويرفع له من معنوياته حتى يصبح ذلك الفعل نصف العلاج ...إلخ.
وكذلك فلاحظ كيف أن الإنسان وقبل أن تجرى له عملية جراحية كيف يلاطفه الطبيب أو الممرّض حتى يبنّجه من حيث لا يشعر المريض , ولا تجد في وجه الطبيب غير إبتسامته المعهودة مع المريض ولو كان هذا المريض على عتبات الآخرة.
فالأحرى بمشائخ التربية أن يكونوا حكماء زمانهم وأطبّاء وقتهم بخصوص أمراض النفس والقلب والعقل والروح.
أمّا المريد الذي يريد أن يتكلّم معه شيخه ويحيطه علما بعيوبه و و..إلخ فهو في هذه الحالة أصبح الشيخ وجعل في المقابل شيخه مريدا وكأنّه يأمره وينهاه وذلك بأن يجبره بقلبه على الكلام معه والحديث في خصوصياته ...إلخ.
فهذا لا يستقيم مع التربية وشؤونها والناظر في تربية النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه يرى جميع مناهج التربية ونظريّات مشائخ التصوّف فيها فإن لكلّ شيخ نظريّة في التربية تختلف بإختلاف المكان والزمان لأنّ أمراض كلّ زمان وكلّ مكان لا تكون مثل ما مرّ ومضى من الأمراض رغم أنّها كلّها أمراض قال تعالى ( تشابهت قلوبهم ) فهي تشابهت فقط وبقي إختلاف المرض بحسب القلّة والكثرة والنوع والكيف.
وعلوم التربية علوم عظيمة كبيرة طويلة دقيقة ومن كلّفه الله تعالى بهذه الوظيفة لا يجوز عليه قطعا الإعتراض عليه لا ظاهرا ولا باطنا وهذا شرط لذبح النفس وموتها.
فليس فرضا أن يكون الفقير لا يرجى منه شيء بمجرّد أنّ شيخه لم يكلّمه في عيوبه وذنوبه وصمت معه صمتا طويلا فهذه مقاييس عقلية ما أبعد تفكير الشيخ عنها.
بل الواجب في حقّ المريد الإنقياد لشيخه ظاهرا وباطنا.
وكم إعترضت بقلبي على شيخي رضي الله عنه وأسأت الأدب معه ظاهرا وباطنا حتى أنّه قال لي مرّة ( يا سيدي أتريد أن تتدخّل في علوم تربيتي للمريدين فتعال إعمل لنا شيخا وخلّصنا ) كلام هذا معناه.
ومرّة قلت له قولا يخصّ المعرفة فقال لي ( هذا الذي تقول يا سيدي خاطر شيطاني ) فسكتّ حتى خجلت لأن الشيخ يعرف حضرات الكلام.
ومرّة قال لي : ( المريدون في كفّ الشيخ مثل حبّات قمح في كفّ صاحبها ).
ومرّة قلت له يا سيدي أخبرني في حالي فقد سئمت فأجابني بقوله ( إصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس ).
فما وافقني شيخنا يوما على أمر بل لا يفعل إلا خلاف ما قصدت لأنّه كان يعلم خبث نفسي وتلوّن داهياتها فكان رضي الله عنه لها بالمرصاد فالحمد لله.
فعزمت أن لا أعترض على شيخي رضي الله عنه وأكتفي بنظره عن نظري وبعلمه عن علمي وما أنا إلا منتسب إلى فقرائه وأرجو أن تشملني معهم الرحمة.
ومن عرف الشيوخ بكى دما على تواضعهم في قلوبهم وكثرة رحمتهم بالمريدين وشدّة عنايتهم بهم أما عن كرمهم معهم فحدّث ولا حرج فهم أهل الجود والكرم الظاهري والباطني.
فالحمد لله على محبّتنا لشيوخنا وإخواننا فإنّها منّة من الله عظيمة.
والسلام
يتبع...
0 التعليقات:
إرسال تعليق