بسم الله الرحمان الرحيم -
قال تعالى :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ).
إستفتح هذه السورة بالجمع عليه الذي هو الحمد , كما قال تعالى:
( الحمد لله ربّ العالمين ).
فكان الحمد الذي هو عبارة عن بدء إستفتاح كتاب الوجود مرتكز نقطة الحقائق لذا سميّت سورة الفاتحة بأسماء كثيرة منها أنّها سورة الحمد لأنّها فاتحة لكلّ سورة من سور القرآن فلا تقبل الصلاة التي هي معراج المؤمن إلا بها , ومن هنا نفهم معاني الفتح الذي يقول به العارفون ألا وهو فتح مغالق الحقائق , فالفتح عبارة عن قراءة كتاب الحقائق وهو معنى الحمد لله لذا كانت الفاتحة مفتتحة بآية الحمد أي التجلّي بالحقائق.
والفرق بين الحمدلة والبسملة أن الحمدلة للفناء والبسملة للبقاء فلا يصحّ في هذا الوجه فناء من غير بقاء ولا بقاء من دون فناء , فالحمد للجمع الأوّل والبسملة للجمع الثاني والأوّل هو الحقيقة أمّا الثاني فهو الشريعة , وعليه فالشريعة لا يمكن تسميتها شريعة إلا في عالم البقاء وهذه هي الشريعة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " لقد تركتكم على المحجّة البيضاء " أمّا شريعة العوام من المسلمين فهي وإن كانت في الظاهر متماثلة مع شريعة العارفين إلا أنّها في الباطن تفترق فافهم.
فالفاتحة إستفتحت بالحمد لمن رام الغوص في الحقائق المجرّدة في عالم الفناء فكانت آية الحمد أوّل آية فيها ( الحمد لله ربّ العالمين ) فحجبهم الإسم الجامع عن قوله ( العالمين ) الذي هو من آثاره , أمّا من جعل البسملة أوّل آية في سورة الفاتحة دلالة على الجمع عليه في عالم البقاء فقد جعل الحمدلة ثاني آية فيها , وقد قال أهل الطريقة بالبسملة وهذه طريقة سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه وهو كمال المقامات والأحوال ظاهرا وباطنا لذا فإنّك ترى بأن مشائخ الشاذلية يكونون علماء في الظاهر وعارفين في الباطن إلا ما قلّ وندر منهم فلا حكم له فهي طريقة الوصول بحسب الأصول وهذا المشرب المحمّدي الكامل.
فمن جعل البسملة آية في سورة الفاتحة فقد قال بالكمال ظاهرا وباطنا لأنّ قراءة الحقائق بالبسملة تعطي التقيّد بالشريعة أمّا قراءتها بالحمدلة كأوّل آية تعطي الإستهلاك في الحقيقة لذا وردت كلّ سورة في القرآن بالبسملة وإن كانت غير آية في السور الأخرى خلاف الفاتحة فهي آية فيها وبها تمّ إستفتاح السور الأخرى بها سواء تلاوة أو نيابة بسملة الفاتحة فيها لأنّ كلّ القرآن مجموع في الفاتحة والفاتحة مجموعة في البسملة وليست مجموعة في الحمدلة إذ لا تجمع الحقائق إلا في الشرائع أمّا جمع الحقائق في الحقائق فهو يفيد عدم التقييد ولا يفيد إلا الإطلاق وهذا يحجب الرؤية عن المراتب والشؤون ولا يصلح بها أمر الدنيا ولا الآخرة لذا وجب الرجوع إلى البسملة.
فالبسملة هي تقييد الحقيقة بالشريعة , أمّا الحمدلة فهي تقييد الشريعة بالحقيقة , فكان مشرب موسى البسملة ومشرب الخضر الحمدلة , فإنّ للحمدلة حكمها وللبسملة حكمها , وحجّة البسملة في هذا العالم أقوى رغم أنّه لا قيام للبسملة إلا بالحمدلة فافهم.
فالبسملة حجاب عن الحمدلة , لذاك قال له:
( إقرأ باسم ربّك ).
لتحجب الأسرار في ضوء النهار فافهم , ثمّ أنّهم ما جعلوا البسملة آية مفروضة في كلّ سورة لأنّه وقع بها كآية إستفتاح في الفاتحة فلا يكون الإستفتاح إلا بآية واحدة في جنسها وهو الفرض أو تقول الجمع أو تقول بقاء الجمع أو تقول جمع البقاء , لذا وجب أن تكون فرضا في سورة الفاتحة المفروضة بدورها في كلّ صلاة مفروضة ومن قال غير هذا أعوزه التحقيق عن اللحاق بأهل الطريق.
والصلاة كما علمت معراج المؤمن , والمؤمن من كمل إيمانه أمّا من لم يكمل إيمانه فليست معراجا له فافهم وكأن البسملة غطّت علوم الحمدلة وأخفتها ومن ثمّ أظهرتها بها غيرة أن تبتذل لغير أهلها . قال عليه الصلاة والسلام :
( كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله " وفي رواية " ببسم الله فهو أبتر ) وكلتا الروايتين لهما مدلول في علم الحقائق ولكلّ منهما مرتبته .
فبدأ سورة الكهف بالحمدلة وجاءت البسملة في أوّل السورة ليست بآية فنابتها آية البسملة في سورة الفاتحة من هذا الوجه تعريفا بحقائق هذه السورة وغيرها من السور التي وردت فيها الحمدلة بداية.
ولمّا كانت الحمدلة تجانس الحقائق أكثر على ما قدّمنا كان من المفهوم أن يأتي ذكر الكتاب بعدها والكتاب معنى أشمل من القرآن لذا قال :
( إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون ).
فكان الكتاب هو عبارة عن البسملة فجاءت الحمدلة نازلة في الكتاب الذي هو البسملة , وما الحمدلة إلا هذا القرآن الساري في كتاب البسملة لكنّه في هذه الحالة كان الظهور للحمدلة والخفاء للبسملة لما يعطيه الكلام في هذه السورة وهي سورة الكهف من الحديث عن الحقائق لذا كانت حجّة الخضر أقوى من حجّة موسى في هذه السورة وكانت البسملة وهي موسى هي التلميذة المتعلّمة من الحمدلة وهو الخضر فافهم.
وإنّما ذكر الكتاب لأنه أشمل ظاهرا وباطنا فهو محيط بأفراد الموجودات فلولا أنّ القرآن أنزل في كتاب لما وقع عليه الإدراك في عالم الأسماء التي هي من علوم البسملة لذا أوصاه (إقرأ باسم ربّك ) وإسم الربّ هو " الله تعالى " فلو قال له " إقرأ بالله " لكان الأمر مختلفا وإنّما قال له :
( إقرأ باسم ربّك ).
فالمعنى مختلف , ولولا أنّ النزول في هذا المقام وهذه المرتبة في هذه السورة كان بالكتاب لفسدت الحقائق وهذا محال لأنّه قال:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ).
لأنّ كتاب الوجود سارية فيه الحقائق التي هي القرآن , أما الفساد فهو الكفر والشرك , والإفساد هو خواطر النفس والشيطان فهذه حضرته وكم من مفسد يظنّ بنفسه أنّه مصلح لعدم معرفة الحقائق وهي واردات الحقّ في مراتبها الظاهرة والباطنة.
فالحمدلة في هذه السورة أعطت كلّيات الحقائق وهي لا يمكن فهمها بغير ذكر الكتاب فخرج ما لم يكن في هذا الكتاب وجهلت معرفته وهو ما لم يقع به التجلّي أصلا الذي هو غيب الذات المطلق , قال شيخنا إسماعيل رضي الله عنه في مرآة الذاكرين (إلهي إنّ كمال العارف بداية الكمال والوصول إلى نهاية نوالكم درجة لا تنال ) فأخبر فقط عن علمه بأنّها لا تنال فهذا نصيب العارف الكامل منها وهو بحدّ ذاته علم بها ولكنّه من علوم الحيرة " اللهم زدني فيك تحيّرا" قال تعالى:
( وقل ربّ زدني علما ).
أي بهذه الحيرة وهي نهاية كمال الحقائق وأعني بنهاية الحقائق أي عدم تناهيها ( كما قال الشيخ العلاوي رضي الله عنه ( إلى ما لا نهاية للكمالات ) فسمّاها كمالات وأشار إلى عدم تناهيها.
ثمّ أعطت الحمدلة في أوّل السورة بعد الإشارة إلى نزول الكتاب ما يجانس الحقائق من هذا الوجه وفي كلّ وجه وهي العبودية من كلّ وجه لذا قال:
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ).
وكأنّه إستفتح تعريف الحقائق للدلالة على محض العبودية ( وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون ) ومحض العبودية هي معرفته في كلّيات حقائق هذا الكتاب النازل من عنده الذي إبتدأ ذكره بالحمدلة في هذه السورة وهي آية الجمع عليه لأن الحقيقة لا تعطي غير الجمع عليه وكلّ من أعطته حقيقته شيئا آخر فهي ليست بحقيقة بل هو إفساد وهذا ما وقع في قصّة قوم ذي القرنين الوارد ذكره في هذه السورة فهي سورة الحقائق.
فكان التجانس واردا ظاهرا بين الحمدلة والكتاب والعبودية أو تقول بين الحقيقة التي هي الحمد وبين الشريعة التي هي الكتاب فسرت الحقيقة في الشريعة لأنّها محتويات الكتاب وبين العبودية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب بالحقيقة لأنّه لا يقابل الربوبية غير العبودية فليس ثمّ إلا الربّ سبحانه الإله المطلق في الكمال وليس هناك ما يقابله غير العبد في عبوديته.
لذا لمّا ذكر هذه الحقائق خاطب نبيّه صلى الله عليه وسلّم ونعته بنعت العبودية ( أنزل على عبده ) فالحقائق لا تنزل إلا على العبيد فكان النعت المناسب لأهل الحقيقة هي العبودية ولا شيء غيرها لذا نعت بذلك الخضر ( فوجدا عبدا من عبادنا ) وما أكثرهم في قوله ( عبادنا ) وما أعزّهم وأقلّهم في قوله ( فوجدا عبدا ) فافهم.
ثمّ أنه أفرد العبودية في هذا المقام بقوله:
( على عبده ).
بعبد واحد وكأنّ هذا العبد هو الذي نال كلّ ما في هذا الكتاب من حقائق وكأنّه هو الذي تستفتح به سورة الكهف حقائقها أي حقائق كلّ فريق فكأنّ هذا العبد المنفرد هو الممدّ من هذا الكتاب نصيب كلّ واحد منهم من الحقائق فهذا إذا كان في سورة الكهف هنا فقط فما البال لو إستشعرنا بأنّه الذي أنزل عليه القرآن كلّه والكتاب كلّه والسور كلّها فكيف لو إستشعرنا بأنّه قرآنا يمشي على رجليه.
لذا دلّك صلى الله عليه وسلّم على أنّه سيّد أهل الحقائق بقوله ( من أدرك منكم الدجال فقرأ عليه فواتح سورة الكهف كانت له عصمة من الدجّال) فدلّ على فواتح سورة الكهف لأنّها من حقائقه صلى الله عليه وسلّم فقد جاء القرآن بذكره في أوّلها فأنظر معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بربّه وبنفسه وبالحقائق وفي فواتح هذه السورة يلتقي البحران العيسوي والمهدوي فافهم وعلومهما هنا موجودة.
ثمّ إنّ الدجل العظيم يكون في دجال آخر الزمان ولا تنسى أنّه يوجد في كل زمان ومكان دجاجلة فلا ينفع معهم إلا مصادمتهم بالتحقيق لأنّ الدجاجلة طالبون ملكا ورئاسة ليس إلا أما أهل الحقائق فنعتهم العبودية كما ذكرنا ( وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ) فهذه علامتهم لأنّ الحقيقة تعطي الرحمة والرحمة تعطي لين الجانب والمذلّة للمؤمنين ( أذلّة على المؤمنين ) والرحمة تعطي القرب من الرحيم ودوام الوصال بأهل الجمال فافهم.
لذا لا يجتمع العلم اللدني في إنسان إلا متى سبقت الرحمة وسرت في ذرّات وجوده ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فيضحى رحمة خالصة لأنّها قرينة الإيمان والإيمان قرين النور والنور قرين الجمال والجمال قرين الصفاء والصفاء قرين الحبّ ...إلخ
ثمّ قال معرّفا بالكتاب بعد تعريفه بالحمدلة والإحاطة :
( ولم يجعل له عوجا ).
أي الكتاب الذي سرى فيه القرآن ليس فيه عوجا حيثما وجّهته لا يلتوي لا يمينا ولا شمالا بل هو صراط مستقيم إلى عين الحقّ مباشرة أما من إلتفت يمينا عنه أو شمالا ففي الحالتين يصدق عليه قوله تعالى :
( يبغونها عوجا ).
والحقائق لا تحتمل العوج ومن ثمّ إذا صحّ عدم العوج في الكتاب إقتضى عدم العوج في العبد الذي نزل عليه هذا الكتاب فتجانس الأمر لتعلم بأنّ الله عليم حكيم ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ) هكذا قالت الملائكة لمّا عرضت عليها هذه الحقائق , فهنا نفهم معنى قوله تعالى:
( وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم ).
أي بلا عوج وكما علّمنا في سورة الفاتحة أن نقول ( إهدنا الصراط المستقيم ) لذا قال عليه الصلاة والسلام ( ما من شيء يقرّبكم إلى الله إلا ودللتكم عليه وما من شيء يبعدكم منه إلا ونهيتكم عنه ) فهذه معاني الهداية الحقّة.
قال تعالى :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ).
إستفتح هذه السورة بالجمع عليه الذي هو الحمد , كما قال تعالى:
( الحمد لله ربّ العالمين ).
فكان الحمد الذي هو عبارة عن بدء إستفتاح كتاب الوجود مرتكز نقطة الحقائق لذا سميّت سورة الفاتحة بأسماء كثيرة منها أنّها سورة الحمد لأنّها فاتحة لكلّ سورة من سور القرآن فلا تقبل الصلاة التي هي معراج المؤمن إلا بها , ومن هنا نفهم معاني الفتح الذي يقول به العارفون ألا وهو فتح مغالق الحقائق , فالفتح عبارة عن قراءة كتاب الحقائق وهو معنى الحمد لله لذا كانت الفاتحة مفتتحة بآية الحمد أي التجلّي بالحقائق.
والفرق بين الحمدلة والبسملة أن الحمدلة للفناء والبسملة للبقاء فلا يصحّ في هذا الوجه فناء من غير بقاء ولا بقاء من دون فناء , فالحمد للجمع الأوّل والبسملة للجمع الثاني والأوّل هو الحقيقة أمّا الثاني فهو الشريعة , وعليه فالشريعة لا يمكن تسميتها شريعة إلا في عالم البقاء وهذه هي الشريعة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " لقد تركتكم على المحجّة البيضاء " أمّا شريعة العوام من المسلمين فهي وإن كانت في الظاهر متماثلة مع شريعة العارفين إلا أنّها في الباطن تفترق فافهم.
فالفاتحة إستفتحت بالحمد لمن رام الغوص في الحقائق المجرّدة في عالم الفناء فكانت آية الحمد أوّل آية فيها ( الحمد لله ربّ العالمين ) فحجبهم الإسم الجامع عن قوله ( العالمين ) الذي هو من آثاره , أمّا من جعل البسملة أوّل آية في سورة الفاتحة دلالة على الجمع عليه في عالم البقاء فقد جعل الحمدلة ثاني آية فيها , وقد قال أهل الطريقة بالبسملة وهذه طريقة سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه وهو كمال المقامات والأحوال ظاهرا وباطنا لذا فإنّك ترى بأن مشائخ الشاذلية يكونون علماء في الظاهر وعارفين في الباطن إلا ما قلّ وندر منهم فلا حكم له فهي طريقة الوصول بحسب الأصول وهذا المشرب المحمّدي الكامل.
فمن جعل البسملة آية في سورة الفاتحة فقد قال بالكمال ظاهرا وباطنا لأنّ قراءة الحقائق بالبسملة تعطي التقيّد بالشريعة أمّا قراءتها بالحمدلة كأوّل آية تعطي الإستهلاك في الحقيقة لذا وردت كلّ سورة في القرآن بالبسملة وإن كانت غير آية في السور الأخرى خلاف الفاتحة فهي آية فيها وبها تمّ إستفتاح السور الأخرى بها سواء تلاوة أو نيابة بسملة الفاتحة فيها لأنّ كلّ القرآن مجموع في الفاتحة والفاتحة مجموعة في البسملة وليست مجموعة في الحمدلة إذ لا تجمع الحقائق إلا في الشرائع أمّا جمع الحقائق في الحقائق فهو يفيد عدم التقييد ولا يفيد إلا الإطلاق وهذا يحجب الرؤية عن المراتب والشؤون ولا يصلح بها أمر الدنيا ولا الآخرة لذا وجب الرجوع إلى البسملة.
فالبسملة هي تقييد الحقيقة بالشريعة , أمّا الحمدلة فهي تقييد الشريعة بالحقيقة , فكان مشرب موسى البسملة ومشرب الخضر الحمدلة , فإنّ للحمدلة حكمها وللبسملة حكمها , وحجّة البسملة في هذا العالم أقوى رغم أنّه لا قيام للبسملة إلا بالحمدلة فافهم.
فالبسملة حجاب عن الحمدلة , لذاك قال له:
( إقرأ باسم ربّك ).
لتحجب الأسرار في ضوء النهار فافهم , ثمّ أنّهم ما جعلوا البسملة آية مفروضة في كلّ سورة لأنّه وقع بها كآية إستفتاح في الفاتحة فلا يكون الإستفتاح إلا بآية واحدة في جنسها وهو الفرض أو تقول الجمع أو تقول بقاء الجمع أو تقول جمع البقاء , لذا وجب أن تكون فرضا في سورة الفاتحة المفروضة بدورها في كلّ صلاة مفروضة ومن قال غير هذا أعوزه التحقيق عن اللحاق بأهل الطريق.
والصلاة كما علمت معراج المؤمن , والمؤمن من كمل إيمانه أمّا من لم يكمل إيمانه فليست معراجا له فافهم وكأن البسملة غطّت علوم الحمدلة وأخفتها ومن ثمّ أظهرتها بها غيرة أن تبتذل لغير أهلها . قال عليه الصلاة والسلام :
( كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله " وفي رواية " ببسم الله فهو أبتر ) وكلتا الروايتين لهما مدلول في علم الحقائق ولكلّ منهما مرتبته .
فبدأ سورة الكهف بالحمدلة وجاءت البسملة في أوّل السورة ليست بآية فنابتها آية البسملة في سورة الفاتحة من هذا الوجه تعريفا بحقائق هذه السورة وغيرها من السور التي وردت فيها الحمدلة بداية.
ولمّا كانت الحمدلة تجانس الحقائق أكثر على ما قدّمنا كان من المفهوم أن يأتي ذكر الكتاب بعدها والكتاب معنى أشمل من القرآن لذا قال :
( إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون ).
فكان الكتاب هو عبارة عن البسملة فجاءت الحمدلة نازلة في الكتاب الذي هو البسملة , وما الحمدلة إلا هذا القرآن الساري في كتاب البسملة لكنّه في هذه الحالة كان الظهور للحمدلة والخفاء للبسملة لما يعطيه الكلام في هذه السورة وهي سورة الكهف من الحديث عن الحقائق لذا كانت حجّة الخضر أقوى من حجّة موسى في هذه السورة وكانت البسملة وهي موسى هي التلميذة المتعلّمة من الحمدلة وهو الخضر فافهم.
وإنّما ذكر الكتاب لأنه أشمل ظاهرا وباطنا فهو محيط بأفراد الموجودات فلولا أنّ القرآن أنزل في كتاب لما وقع عليه الإدراك في عالم الأسماء التي هي من علوم البسملة لذا أوصاه (إقرأ باسم ربّك ) وإسم الربّ هو " الله تعالى " فلو قال له " إقرأ بالله " لكان الأمر مختلفا وإنّما قال له :
( إقرأ باسم ربّك ).
فالمعنى مختلف , ولولا أنّ النزول في هذا المقام وهذه المرتبة في هذه السورة كان بالكتاب لفسدت الحقائق وهذا محال لأنّه قال:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ).
لأنّ كتاب الوجود سارية فيه الحقائق التي هي القرآن , أما الفساد فهو الكفر والشرك , والإفساد هو خواطر النفس والشيطان فهذه حضرته وكم من مفسد يظنّ بنفسه أنّه مصلح لعدم معرفة الحقائق وهي واردات الحقّ في مراتبها الظاهرة والباطنة.
فالحمدلة في هذه السورة أعطت كلّيات الحقائق وهي لا يمكن فهمها بغير ذكر الكتاب فخرج ما لم يكن في هذا الكتاب وجهلت معرفته وهو ما لم يقع به التجلّي أصلا الذي هو غيب الذات المطلق , قال شيخنا إسماعيل رضي الله عنه في مرآة الذاكرين (إلهي إنّ كمال العارف بداية الكمال والوصول إلى نهاية نوالكم درجة لا تنال ) فأخبر فقط عن علمه بأنّها لا تنال فهذا نصيب العارف الكامل منها وهو بحدّ ذاته علم بها ولكنّه من علوم الحيرة " اللهم زدني فيك تحيّرا" قال تعالى:
( وقل ربّ زدني علما ).
أي بهذه الحيرة وهي نهاية كمال الحقائق وأعني بنهاية الحقائق أي عدم تناهيها ( كما قال الشيخ العلاوي رضي الله عنه ( إلى ما لا نهاية للكمالات ) فسمّاها كمالات وأشار إلى عدم تناهيها.
ثمّ أعطت الحمدلة في أوّل السورة بعد الإشارة إلى نزول الكتاب ما يجانس الحقائق من هذا الوجه وفي كلّ وجه وهي العبودية من كلّ وجه لذا قال:
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ).
وكأنّه إستفتح تعريف الحقائق للدلالة على محض العبودية ( وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون ) ومحض العبودية هي معرفته في كلّيات حقائق هذا الكتاب النازل من عنده الذي إبتدأ ذكره بالحمدلة في هذه السورة وهي آية الجمع عليه لأن الحقيقة لا تعطي غير الجمع عليه وكلّ من أعطته حقيقته شيئا آخر فهي ليست بحقيقة بل هو إفساد وهذا ما وقع في قصّة قوم ذي القرنين الوارد ذكره في هذه السورة فهي سورة الحقائق.
فكان التجانس واردا ظاهرا بين الحمدلة والكتاب والعبودية أو تقول بين الحقيقة التي هي الحمد وبين الشريعة التي هي الكتاب فسرت الحقيقة في الشريعة لأنّها محتويات الكتاب وبين العبودية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب بالحقيقة لأنّه لا يقابل الربوبية غير العبودية فليس ثمّ إلا الربّ سبحانه الإله المطلق في الكمال وليس هناك ما يقابله غير العبد في عبوديته.
لذا لمّا ذكر هذه الحقائق خاطب نبيّه صلى الله عليه وسلّم ونعته بنعت العبودية ( أنزل على عبده ) فالحقائق لا تنزل إلا على العبيد فكان النعت المناسب لأهل الحقيقة هي العبودية ولا شيء غيرها لذا نعت بذلك الخضر ( فوجدا عبدا من عبادنا ) وما أكثرهم في قوله ( عبادنا ) وما أعزّهم وأقلّهم في قوله ( فوجدا عبدا ) فافهم.
ثمّ أنه أفرد العبودية في هذا المقام بقوله:
( على عبده ).
بعبد واحد وكأنّ هذا العبد هو الذي نال كلّ ما في هذا الكتاب من حقائق وكأنّه هو الذي تستفتح به سورة الكهف حقائقها أي حقائق كلّ فريق فكأنّ هذا العبد المنفرد هو الممدّ من هذا الكتاب نصيب كلّ واحد منهم من الحقائق فهذا إذا كان في سورة الكهف هنا فقط فما البال لو إستشعرنا بأنّه الذي أنزل عليه القرآن كلّه والكتاب كلّه والسور كلّها فكيف لو إستشعرنا بأنّه قرآنا يمشي على رجليه.
لذا دلّك صلى الله عليه وسلّم على أنّه سيّد أهل الحقائق بقوله ( من أدرك منكم الدجال فقرأ عليه فواتح سورة الكهف كانت له عصمة من الدجّال) فدلّ على فواتح سورة الكهف لأنّها من حقائقه صلى الله عليه وسلّم فقد جاء القرآن بذكره في أوّلها فأنظر معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بربّه وبنفسه وبالحقائق وفي فواتح هذه السورة يلتقي البحران العيسوي والمهدوي فافهم وعلومهما هنا موجودة.
ثمّ إنّ الدجل العظيم يكون في دجال آخر الزمان ولا تنسى أنّه يوجد في كل زمان ومكان دجاجلة فلا ينفع معهم إلا مصادمتهم بالتحقيق لأنّ الدجاجلة طالبون ملكا ورئاسة ليس إلا أما أهل الحقائق فنعتهم العبودية كما ذكرنا ( وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ) فهذه علامتهم لأنّ الحقيقة تعطي الرحمة والرحمة تعطي لين الجانب والمذلّة للمؤمنين ( أذلّة على المؤمنين ) والرحمة تعطي القرب من الرحيم ودوام الوصال بأهل الجمال فافهم.
لذا لا يجتمع العلم اللدني في إنسان إلا متى سبقت الرحمة وسرت في ذرّات وجوده ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فيضحى رحمة خالصة لأنّها قرينة الإيمان والإيمان قرين النور والنور قرين الجمال والجمال قرين الصفاء والصفاء قرين الحبّ ...إلخ
ثمّ قال معرّفا بالكتاب بعد تعريفه بالحمدلة والإحاطة :
( ولم يجعل له عوجا ).
أي الكتاب الذي سرى فيه القرآن ليس فيه عوجا حيثما وجّهته لا يلتوي لا يمينا ولا شمالا بل هو صراط مستقيم إلى عين الحقّ مباشرة أما من إلتفت يمينا عنه أو شمالا ففي الحالتين يصدق عليه قوله تعالى :
( يبغونها عوجا ).
والحقائق لا تحتمل العوج ومن ثمّ إذا صحّ عدم العوج في الكتاب إقتضى عدم العوج في العبد الذي نزل عليه هذا الكتاب فتجانس الأمر لتعلم بأنّ الله عليم حكيم ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ) هكذا قالت الملائكة لمّا عرضت عليها هذه الحقائق , فهنا نفهم معنى قوله تعالى:
( وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم ).
أي بلا عوج وكما علّمنا في سورة الفاتحة أن نقول ( إهدنا الصراط المستقيم ) لذا قال عليه الصلاة والسلام ( ما من شيء يقرّبكم إلى الله إلا ودللتكم عليه وما من شيء يبعدكم منه إلا ونهيتكم عنه ) فهذه معاني الهداية الحقّة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق