بسم الله الرحمان الرحيم
قال تعالى ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ).
ما صرّحوا هنا ببغضهم ليوسف ولا بكرهم له إذ لو كان البغض والكره مقصودا بداية لذات الشخص لعلمنا أنّ حالهم كان حالا شيطانيا خالصا كما كانت عليه حالة إبليس لعنه الله تعالى إذ أنّه ما أراد السجود لآدم لمرض في النفس وهو الحسد بداية لآدم ثمّ التكبر على أوامر الله نهاية فالحسد صفة نارية حارة تذهب العقل وتسيطر على القلب أمّا الكبر فهو صفة باردة فلمّا كان الكبر أكبر جرما من مجرّد الحسد قال تعالى ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) أي لأنّ الكبر لا يجوز على أوامر الله تعالى بحال فهو يناقض العبودية فالإنسان قد يتكبّر على الله تعالى من حيث شعر أو لم يشعر ولكن لا نقول أنّه الإنسان يحسد الله تعالى لأنّ الحسد يكون فيما بين المخلوقين والمتجانسين فليس مجرّد الحسد هو الذي أخرج إبليس لعنه الله تعالى من الجنّة وإنّما الذي أخرجه خاصّة هو وصف الكبر.
إذ أنّ الحسد بريد الكبر كما كانت المعصية بريد الكفر فلمّا عصى إبليس لعنه الله تعالى بحسده لآدم وقع في الكفر بتكبره على أوامر الله تعالى لذا نعته ووصفه الله تعالى به لأنّ الكبر ينازع دائما الألوهية كما ورد في الحديث القدسي ( الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار ) لأنّ الحسد قد يكون كما قيل ما خلا جسد من حسد ولكنّه أمر وإن كان مذموما في الشرع والحقيقة فهو معصية كبيرة وفاحشة مقيتة إلاّ أنّه لا يصل صاحبه درجة الكفر رغم أنّ الحسود لا يسود كما يقال وأنّه كما ورد في الحديث ( أنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) فهو معذّب باطنا وقد قال تعالى ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) فهذا وإن كان فاحشة قلبية وكبيرة من الكبائر إلاّ أنّها لا تصل إلى درجة كبيرة وفاحشة الكبر.
لذا لمّا رأى إبليس لعنه الله تعالى وعاين يقينا منزلة آدم ومكرمته عليه أمره الله تعالى بالسجود بعد أن ظهرت الحجّة عليه فسجدت الملائكة ولكن إبليس لعنه الله تعالى أبى واستكبر وكان من الكافرين فإنّما قال تعالى ( أبى واستكبر ) فهنا ظهر الكبر بخلاف إخوة يوسف عليه السلام فما تكبّروا حينما ظهرت حجّة يوسف ومكرمته يقينا فلا يسعهم حينئذ إنكارها فقالوا كما قال تعالى ( قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) فاعترفوا ثمّ طلبوا الصفح والغفران من أبيهم ( قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) .
نعم يمكن أن نقول أنّهم حسدوا يوسف ولكن لا يمكن أن نقول في حقّهم أنّهم تكبّروا عليه بعد أن ظهرت مكرمته عليهم خلاف إبليس لعنه الله تعالى لمّا ظهرت مكرمة آدم عليه بعد أن أنبأهم بأسمائهم فتكبّر حينما أُمر بالسجود لأنّ العبد عندما يرفض الإنصياع إلى أوامر الله تعالى في حضرته سبحانه يصير متكبّرا فيخرج من حضرة الله تعالى مطرودا ملعونا ...
من جانب آخر النفوس داهية قد تحسّ بصاحب السرّ فلمّا أحسّت أنفسهم واستشعرت أنّ يوسف قد يكون صاحب سرّ أبيهم وأنّه المقصود في زمانهم من عين الوجود بحثوا عن مدخل لتعكير صفو ذلك ولو بالكيد الذي كادوه له لا من جانب كبريائي كفري ولكن من جانب تنازع باطني مذموم قال القطب سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنه لمّا رأى من شفوف مرتبة مريده القطب سيدي محمد بن أحمد البوزيدي رضي الله عنه شيخ سيدي أحمد ابن عجيبة الحسني رضي الله عنه ( هو سيّدنا في الدنيا والآخرة ) وقد قال سيدي محمد اابوزيدي هذا رضي الله عنه ( ما كنت أحسب أنّ بين الصوفية حسدا حتى وقفت على ذلك فوجدت فيهم الكثير من الحسد ) نقلته بالمعنى.
لهذا لم يحسد سيدي العربي الدرقاوي مريده رضي الله عنهما لهذا تحدّثوا فيما بينهم ليجمعوا أمرهم باحثين عن سبب ظاهر يراه الجميع فتكون أفعالهم جميعا متأسّسة على كلمة حقّ يراد بها باطل وهكذا أهل هذا الحال لا تجدهم إلا باحثين عن حقائق يرتكزون عليها في فعل باطلهم وهذا من إملاءات النفس وأمراضها مهما كانت عالية من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ).
فلا تجد صاحب هذا الحال إلاّ ملبّسا الحقّ بالباطل فورث اليهود من حال إخوة يوسف كلّ قبيح وما ورثوا منهم ما فيهم من مليح إلاّ ما شاء الله تعالى كما قال تعالى في حق من هكذا شأنه ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) رغم أنّه سماهم أهل كتاب ( فافهم ) فلبّس إخوة يوسف الحقّ بالباطل لأنّ محبّة يعقوب ليوسف وأخيه حقيقة ظاهرة ولكن هذا لا ينفي محبّته لهم لهذا قالوا ذاكرين ما وصلوا إليه في فهمهم ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) فما نفوا محبّة أبيهم لهم ولكن لبّسوا بقولهم ( أحبّ إلى أبينا منّا ) ثمّ زادوا في التلبيس لترضى نفوسهم إلى ما عمدوا إليه واسرّوه في قلوبهم بقولهم ( ونحن عصبة ) فخرج من هذه العصبة بنيامين الأخ الشقيق لسيدنا يوسف عليهما السلام فكلّ هذا وغيره من الحجج التي أرادوا أن يقنعوا بها نفوسهم قبل فعلتهم لأنّ النفس متى حدّثتك بأنّك صاحب حقّ وصاحب حجّة ..إلخ ذلك من الأقيسة العقلية والأمراض الوهمية إنّما تريد منك ظهورها وذلك بإبطال حقّ وإحقاق باطل .. لهذا قالوا لا تركن إلى وساوس نفسك أبدا ...
قال تعالى : ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ).
لمّا نسبوا كثرة وشدّة محبّة أبيهم يعقوب ليوسف وأخيه أرادوا أن يفرضوا أحوالهم على حال أبيهم بعد أن اتّهموه بالضلال في زيادة هذه المحبة ليوسف لأنّهم ماأنكروا محبته ليوسف ولكن أنكروا أن يكون يحبّه أكثر منهم فليس التنازع وقع في المحبة من عدمها وإنّما التنازع وقع فيما بينهم وبينه فيها في هذا الجانب ويبقى هذا قولهم هم لا غير وربما لا يكون الحقيقة ولكنه من أوهام النفس . وسترى في الآيات اللاحقات هذا الوهم لأنّ الله تعالى حكى قولهم وحالهم وربما لا يكون ما قالوه صحيحا وإنّ كان في ظاهره حقّا كما ستراه وتقف عليه إن شاء الله تعالى وسنذكر إن شاء الله تعالى الكثير من المقامات والأحوال خلال هذه القصّة وما هو الحال الصحيح من السقيم والعالي من الأعلى وكذلك في المقام والله أعلم سبحانه وأحكم وهو العليم الحكيم وتفسير الضلال المقول في هذه الآية هو الخطأ كما قاله المحققون من ساداتنا المفسرين رضي الله عنهم.
إنّما ورد التعبير بالضلال لأنّ الضلال لا يرجع عنه غالبا فهو صفة مصاحبة للقلب بخلاف الخطأ فلو بيّنوه له لرجع عنه أمّا الضلال فهي صفة ملازمة لها تعلّق بالبصيرة فكأنّهم حكموا بأنّ أباهم أعمى ( حاشاه عليه السلام ) لا يرى ما هم عليه في بواطنهم وظواهرهم من محبّتهم له وأنّهم يحبّونه أكثر ممّا يحبّه يوسف وأخوه لذا قالوا ( ونحن عصبة ) أي كثرة فلو اجتمعت محابنا كلّها لرجحت بمحبّة يوسف لأبيه وأخيه إنّ أبانا في هذه الحالة لفي ضلال وهو العمى عن محابنا له وخدمتنا ونحن عصبة لو أمرنا بأيّ شيء لكنّا في خدمته دليل محبّته ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ).
فكأنّهم يقولون في نفوسهم ( يا يوسف إنّ يعقوب هو أبونا قبل أن يكون أباك فهو أولى بنا منك ونحن أولى به منك ) فلمّا كان أمر المحبّة صادرا من يعقوب اتّهموه بالضلال المبين أي الواضح الذي لا تعتريه شبهة لهذا عاقبوه في يوسف من حيث لم يشعروا وهذا عقاب لهم من الله تعالى وتأديب لأنّ الذي يكيد يكاد به فزادوا بعدا عن أبيهم جرّاء فعلتهم فأبعدهم الله تعالى عن قلب أبيهم من حيث أرادوا القرب منه فلو خدموه في يوسف وأحبّوه في يوسف لسعدوا وما نالهم من الشقاء ما نالوه ومن البعد والتيه ما لاقوه ...
ثمّ في قولهم ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) يشمل أخا يوسف أيضا بنيامين إلاّ أنهم قرّروا البداية بيوسف لأنّه المقصود ذاتا لهذا نطقوا بإسمه بخلاف بنيامين فوصفوه بوصف الأخوّة ليوسف وما وصفوه بوصف الأخوّة لهم فتجاذبتهم هنا إفتراق الأمومة لأنّهم لمّا قالوا ( ليوسف وأخوه ) نسبوه إلى أمّ يوسف وما نسبوه إلى أبيهم يعقوب في هذه الحالة فلو نسبوه إلى أبيهم يعقوب لقالوا ( ليوسف وأخونا ) ثمّ ما نسبوا يوسف وأخاه إلى أبيهم فما قالوا مثلا ( أحبّ إلى أبيهم منا ) بل قالوا ( أحبّ إلى أبينا منا ) فنسبوا الأب المشترك إليهم كما نسبوا يوسف وأخاه إلى أمّ يوسف فكأنّهم غير راضين بإنتسابهما لأبيهما رغم أنّه أخوهم فأحيووا بذلك فيما بينهم نعرة أفتراق الأمومة كي يتشجّع لديهم ذلك الأمر فجعلوا مفارقة فيما بينهم وبين يوسف وأخيه فبحثوا عن الحجج الواهية لأنّ النفس دائما هكذا شأنها تلبّس وتسوّل كما قال لهم أبوهم بعد ذلك ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) وهذا أمر يحدث كثيرا فيمن تزوّج أكثر من واحدة وأنجب منها ...
يتبع إن شاء الله تعالى ...
قال تعالى ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ).
ما صرّحوا هنا ببغضهم ليوسف ولا بكرهم له إذ لو كان البغض والكره مقصودا بداية لذات الشخص لعلمنا أنّ حالهم كان حالا شيطانيا خالصا كما كانت عليه حالة إبليس لعنه الله تعالى إذ أنّه ما أراد السجود لآدم لمرض في النفس وهو الحسد بداية لآدم ثمّ التكبر على أوامر الله نهاية فالحسد صفة نارية حارة تذهب العقل وتسيطر على القلب أمّا الكبر فهو صفة باردة فلمّا كان الكبر أكبر جرما من مجرّد الحسد قال تعالى ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) أي لأنّ الكبر لا يجوز على أوامر الله تعالى بحال فهو يناقض العبودية فالإنسان قد يتكبّر على الله تعالى من حيث شعر أو لم يشعر ولكن لا نقول أنّه الإنسان يحسد الله تعالى لأنّ الحسد يكون فيما بين المخلوقين والمتجانسين فليس مجرّد الحسد هو الذي أخرج إبليس لعنه الله تعالى من الجنّة وإنّما الذي أخرجه خاصّة هو وصف الكبر.
إذ أنّ الحسد بريد الكبر كما كانت المعصية بريد الكفر فلمّا عصى إبليس لعنه الله تعالى بحسده لآدم وقع في الكفر بتكبره على أوامر الله تعالى لذا نعته ووصفه الله تعالى به لأنّ الكبر ينازع دائما الألوهية كما ورد في الحديث القدسي ( الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار ) لأنّ الحسد قد يكون كما قيل ما خلا جسد من حسد ولكنّه أمر وإن كان مذموما في الشرع والحقيقة فهو معصية كبيرة وفاحشة مقيتة إلاّ أنّه لا يصل صاحبه درجة الكفر رغم أنّ الحسود لا يسود كما يقال وأنّه كما ورد في الحديث ( أنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) فهو معذّب باطنا وقد قال تعالى ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) فهذا وإن كان فاحشة قلبية وكبيرة من الكبائر إلاّ أنّها لا تصل إلى درجة كبيرة وفاحشة الكبر.
لذا لمّا رأى إبليس لعنه الله تعالى وعاين يقينا منزلة آدم ومكرمته عليه أمره الله تعالى بالسجود بعد أن ظهرت الحجّة عليه فسجدت الملائكة ولكن إبليس لعنه الله تعالى أبى واستكبر وكان من الكافرين فإنّما قال تعالى ( أبى واستكبر ) فهنا ظهر الكبر بخلاف إخوة يوسف عليه السلام فما تكبّروا حينما ظهرت حجّة يوسف ومكرمته يقينا فلا يسعهم حينئذ إنكارها فقالوا كما قال تعالى ( قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) فاعترفوا ثمّ طلبوا الصفح والغفران من أبيهم ( قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) .
نعم يمكن أن نقول أنّهم حسدوا يوسف ولكن لا يمكن أن نقول في حقّهم أنّهم تكبّروا عليه بعد أن ظهرت مكرمته عليهم خلاف إبليس لعنه الله تعالى لمّا ظهرت مكرمة آدم عليه بعد أن أنبأهم بأسمائهم فتكبّر حينما أُمر بالسجود لأنّ العبد عندما يرفض الإنصياع إلى أوامر الله تعالى في حضرته سبحانه يصير متكبّرا فيخرج من حضرة الله تعالى مطرودا ملعونا ...
من جانب آخر النفوس داهية قد تحسّ بصاحب السرّ فلمّا أحسّت أنفسهم واستشعرت أنّ يوسف قد يكون صاحب سرّ أبيهم وأنّه المقصود في زمانهم من عين الوجود بحثوا عن مدخل لتعكير صفو ذلك ولو بالكيد الذي كادوه له لا من جانب كبريائي كفري ولكن من جانب تنازع باطني مذموم قال القطب سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنه لمّا رأى من شفوف مرتبة مريده القطب سيدي محمد بن أحمد البوزيدي رضي الله عنه شيخ سيدي أحمد ابن عجيبة الحسني رضي الله عنه ( هو سيّدنا في الدنيا والآخرة ) وقد قال سيدي محمد اابوزيدي هذا رضي الله عنه ( ما كنت أحسب أنّ بين الصوفية حسدا حتى وقفت على ذلك فوجدت فيهم الكثير من الحسد ) نقلته بالمعنى.
لهذا لم يحسد سيدي العربي الدرقاوي مريده رضي الله عنهما لهذا تحدّثوا فيما بينهم ليجمعوا أمرهم باحثين عن سبب ظاهر يراه الجميع فتكون أفعالهم جميعا متأسّسة على كلمة حقّ يراد بها باطل وهكذا أهل هذا الحال لا تجدهم إلا باحثين عن حقائق يرتكزون عليها في فعل باطلهم وهذا من إملاءات النفس وأمراضها مهما كانت عالية من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ).
فلا تجد صاحب هذا الحال إلاّ ملبّسا الحقّ بالباطل فورث اليهود من حال إخوة يوسف كلّ قبيح وما ورثوا منهم ما فيهم من مليح إلاّ ما شاء الله تعالى كما قال تعالى في حق من هكذا شأنه ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) رغم أنّه سماهم أهل كتاب ( فافهم ) فلبّس إخوة يوسف الحقّ بالباطل لأنّ محبّة يعقوب ليوسف وأخيه حقيقة ظاهرة ولكن هذا لا ينفي محبّته لهم لهذا قالوا ذاكرين ما وصلوا إليه في فهمهم ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) فما نفوا محبّة أبيهم لهم ولكن لبّسوا بقولهم ( أحبّ إلى أبينا منّا ) ثمّ زادوا في التلبيس لترضى نفوسهم إلى ما عمدوا إليه واسرّوه في قلوبهم بقولهم ( ونحن عصبة ) فخرج من هذه العصبة بنيامين الأخ الشقيق لسيدنا يوسف عليهما السلام فكلّ هذا وغيره من الحجج التي أرادوا أن يقنعوا بها نفوسهم قبل فعلتهم لأنّ النفس متى حدّثتك بأنّك صاحب حقّ وصاحب حجّة ..إلخ ذلك من الأقيسة العقلية والأمراض الوهمية إنّما تريد منك ظهورها وذلك بإبطال حقّ وإحقاق باطل .. لهذا قالوا لا تركن إلى وساوس نفسك أبدا ...
قال تعالى : ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ).
لمّا نسبوا كثرة وشدّة محبّة أبيهم يعقوب ليوسف وأخيه أرادوا أن يفرضوا أحوالهم على حال أبيهم بعد أن اتّهموه بالضلال في زيادة هذه المحبة ليوسف لأنّهم ماأنكروا محبته ليوسف ولكن أنكروا أن يكون يحبّه أكثر منهم فليس التنازع وقع في المحبة من عدمها وإنّما التنازع وقع فيما بينهم وبينه فيها في هذا الجانب ويبقى هذا قولهم هم لا غير وربما لا يكون الحقيقة ولكنه من أوهام النفس . وسترى في الآيات اللاحقات هذا الوهم لأنّ الله تعالى حكى قولهم وحالهم وربما لا يكون ما قالوه صحيحا وإنّ كان في ظاهره حقّا كما ستراه وتقف عليه إن شاء الله تعالى وسنذكر إن شاء الله تعالى الكثير من المقامات والأحوال خلال هذه القصّة وما هو الحال الصحيح من السقيم والعالي من الأعلى وكذلك في المقام والله أعلم سبحانه وأحكم وهو العليم الحكيم وتفسير الضلال المقول في هذه الآية هو الخطأ كما قاله المحققون من ساداتنا المفسرين رضي الله عنهم.
إنّما ورد التعبير بالضلال لأنّ الضلال لا يرجع عنه غالبا فهو صفة مصاحبة للقلب بخلاف الخطأ فلو بيّنوه له لرجع عنه أمّا الضلال فهي صفة ملازمة لها تعلّق بالبصيرة فكأنّهم حكموا بأنّ أباهم أعمى ( حاشاه عليه السلام ) لا يرى ما هم عليه في بواطنهم وظواهرهم من محبّتهم له وأنّهم يحبّونه أكثر ممّا يحبّه يوسف وأخوه لذا قالوا ( ونحن عصبة ) أي كثرة فلو اجتمعت محابنا كلّها لرجحت بمحبّة يوسف لأبيه وأخيه إنّ أبانا في هذه الحالة لفي ضلال وهو العمى عن محابنا له وخدمتنا ونحن عصبة لو أمرنا بأيّ شيء لكنّا في خدمته دليل محبّته ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ).
فكأنّهم يقولون في نفوسهم ( يا يوسف إنّ يعقوب هو أبونا قبل أن يكون أباك فهو أولى بنا منك ونحن أولى به منك ) فلمّا كان أمر المحبّة صادرا من يعقوب اتّهموه بالضلال المبين أي الواضح الذي لا تعتريه شبهة لهذا عاقبوه في يوسف من حيث لم يشعروا وهذا عقاب لهم من الله تعالى وتأديب لأنّ الذي يكيد يكاد به فزادوا بعدا عن أبيهم جرّاء فعلتهم فأبعدهم الله تعالى عن قلب أبيهم من حيث أرادوا القرب منه فلو خدموه في يوسف وأحبّوه في يوسف لسعدوا وما نالهم من الشقاء ما نالوه ومن البعد والتيه ما لاقوه ...
ثمّ في قولهم ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) يشمل أخا يوسف أيضا بنيامين إلاّ أنهم قرّروا البداية بيوسف لأنّه المقصود ذاتا لهذا نطقوا بإسمه بخلاف بنيامين فوصفوه بوصف الأخوّة ليوسف وما وصفوه بوصف الأخوّة لهم فتجاذبتهم هنا إفتراق الأمومة لأنّهم لمّا قالوا ( ليوسف وأخوه ) نسبوه إلى أمّ يوسف وما نسبوه إلى أبيهم يعقوب في هذه الحالة فلو نسبوه إلى أبيهم يعقوب لقالوا ( ليوسف وأخونا ) ثمّ ما نسبوا يوسف وأخاه إلى أبيهم فما قالوا مثلا ( أحبّ إلى أبيهم منا ) بل قالوا ( أحبّ إلى أبينا منا ) فنسبوا الأب المشترك إليهم كما نسبوا يوسف وأخاه إلى أمّ يوسف فكأنّهم غير راضين بإنتسابهما لأبيهما رغم أنّه أخوهم فأحيووا بذلك فيما بينهم نعرة أفتراق الأمومة كي يتشجّع لديهم ذلك الأمر فجعلوا مفارقة فيما بينهم وبين يوسف وأخيه فبحثوا عن الحجج الواهية لأنّ النفس دائما هكذا شأنها تلبّس وتسوّل كما قال لهم أبوهم بعد ذلك ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) وهذا أمر يحدث كثيرا فيمن تزوّج أكثر من واحدة وأنجب منها ...
يتبع إن شاء الله تعالى ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق