بسم الله الرحمان الرحيم
قال تعالى : ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ).
بعد التلبيس السابق الذي ذكروه في قولهم في الآية السابقة ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) عزموا على تنفيذ لازم ما وقر في نفوسهم لكنّهم زادوا كشفا لما انطوت عليه تلك النفوس من حسد ليوسف وغيرة منه لأنّهم بداية قدّموا أنّ سبب ضلال أبيهم المبين هو كثرة محبّته ليوسف وأخيه مقارنة مع محبّته لهم ثمّ في هذه الآية قالوا ( أقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ) فكشفوا أنّ المراد هو يوسف عليه السلام وليس مجرّد محبّة أبيه له لأنه برأيهم سبب ضلال أبيهم فيهم بعد أن اتهموا آباهم بالميل الغير محق ليوسف فتنادوا إلى الدفاع عن مظلمتهم بزعمهم وإنّما كما قدّمنا الذي حملهم على ذلك هو حسد يوسف والغيرة منه لأنّهم أحسّوا وعلموا أنّ يوسف هو المراد وهذا صريح في الرؤيا التي لم يقصّها عليهم بعد أن قصّها على أبيه وقد كان يعقوب على علم سابق بما انطوت عليه ضمائرهم من ذلك بصريح قوله عليه السلام ( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ... ).
كذلك يوسف عليه السلام كان على علم بما انطوت عليه ضمائر إخوته بعد أن نبّهه أبوه قائلا كما قال تعالى ( ... فيكيدوا لك كيدا ) فهو تحذير صريح ليوسف منهم فأوضح هنا سيدنا يعقوب طبيعة تلك المنازعة لمّا قال ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) فهي منازعة على مقامات الخصوصية وفيها شبهة من منازعة إبليس لعنه الله تعالى لآدم عليه السلام لكن ليس بنفس القياس كما قدّمنا في الأعلى فقد يقول قائل وهل تصل المنازعة إلى التفكير في القتل ؟
فالجواب :
نعم , بل أكثر من ذلك ولو لا حفظ الله تعالى لإخوة يوسف لأنّهم من آل يعقوب لكان ما كان من شأنهم بل إنّ المنازعة على المقامات قد تصل بالإنسان إلى درجة الكفر أو لم يكن إبليس لعنه الله تعالى قبل خلق أدم عالما عابدا منوّرا عارفا ؟
الجواب :
نعم , قد كان كذلك فكان إبتلاؤه شديدا بآدم فنازع الأقدار بإسم الأحقيّة والعلم كما نازع إخوة يوسف يوسف عليه السلام بإسم الحقّ ودعوى ضلال أبيهم لكن الفرق الأكيد بين هذا وذاك أنّ إخوة يوسف ما خرجوا من الحسد إلى الإستكبار أو إلى الكفر أو إلى الإعتراض على الله تعالى لذا قالوا كما في الآية ( وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ) فلمّا اعتقدوا وتيقّنوا أنّ فعلهم ذاك هو معصية أضمروا التوبة فما أٍرادوا إلاّ قطع حظّ يوسف من يعقوب لظنّهم أنّ الأمر منوط بفوزهم بأبيهم يعقوب.
لهذا اتّهموه بالضلال فكان مشهدهم في هذه الحال مشهد مراتب خاصّة فما خلطوا بين العبودية والخصوصية بخلاف إبليس لعنه الله تعالى فقد خلط بينهما فأراد لعنه الله تعالى الخروج في وصف الخلافة العامّة والقطبانية الشاملة فظنّ أنّه خير من آدم كما قال ( ( أنا خير منه ) أمّا إخوة يوسف في مقامهم ذاك ما نسبوا الخيرية لأنفسهم فقالوا ( نحن خير منه ) إذ أنّ نسبة الخيرية لجميعهم في آن واحد لا تستقيم فلو حصل هذا لتخايروا فيما بينهم أيضا ولما قالوا ( ليوسف وأخوه ) بل لصدر الأمر من أحدهم فحسب أو من إثنين لهذا قالت الملائكة عليهم السلام ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) فجمعوا أنفسهم في ضمير واحد خلاف إبليس لعنه الله تعالى فما قال ( نحن خير منه ) نسبة لنورانيته وقتها بل قال ( أنا خير منه ) فبيّن منحاه في تلك الخيرية في قوله ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) فذكر نسبته النارية وطبيعته العنصرية مقارنة بنسبة آدم الطينية وطبيعته العنصرية , بخلاف الملائكة فما ذكرت نسبتها النورية وطبيعتها العنصرية فقالت ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فذكرت أمرين :
الأوّل غيرتها على جناب التوحيد أن ينتهك ولأوامر الله تعالى أن تعصى لأنّهم من جنود الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ثمّ الأمر الثاني ذكروا مراقي عبوديتهم من حيث التسبيح والتقديس فما رأوا أنفسهم على آدم وأنّهم خير منه إذ أنّ شهود هذه الحالة من الأنانية والغرور والدعوى عصمت منها الملائكة في أصل خلقتها كما قال تعالى ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) وإنّما تكلّموا بحسب ما عاينوه في كشفهم من أمر هذا الخليفة فذكروا الشريعة وصيانتها ( أتجعل فيما من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ثمّ ذكروا الحقيقة ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) أي أننّا لا نعصيك يا ربنا طرفة عين فسألوا هنا عن الحكمة الإلهية من إسداء الخلافة لمن يفسد في الأرض ويسفك الدماء لذا قال الله تعالى لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون ) وهذا أدب كبير منهم رغم أنّ الله تعالى عاتبهم على الإحتجاج بالعلم على الله تعالى .
إذ لا يحاجج أحد الله تعالى بعلمه أبدا لذا يقول المشركون في النار ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ) فقالوا بالجبر أي أنّهم مجبورون على الشرك والكفر فنسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق به لأنّ الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر هذا الكلام في ظاهره حقيقة لأنّه لا يكفر أحد أو يؤمن إلاّ متى شاء الله تعالى لكنّه في باطنه كذب وبهتان وقول على الله تعالى بغير علم لذا قال الله تعالى لهم ( كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ) فوصفهم بالكذب كما كذب الذين من قبلهم ثمّ قال لهم في هذا الجانب الذي اعترضوا فيه ( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ) فطالبهم هنا بالإفصاح عن علم ما قالوه ثمّ أبهتهم كما قال تعالى ( إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) فبيّن تعالى أنّ ما هم فيه ليس بعلم وإنّما هو ظنّ كما قال تعالى ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) وقال تعالى ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ).
المراد هنا بالظنّ الظنّ السيّء القبيح الذي لا يليق بالله تعالى لا الظنّ الذي يفيد اليقين كما قال تعالى ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) أمّا الملائكة الكرام عليهم السلام فما قال الله تعالى لهم ( كاذبين ) كما نعت ووصف بالكذب المشركين الجاهلين وإنّما ذكر فقط قوله تعالى ( إن كنتم صادقين ) وهنا هناك فرق بين أن تكون كاذبا وبين أن تكون غير صادق صدقا مطلقا لأنّ الصدق المطلق من إختصاص الله تعالى لهذا قال للملائكة لمّا تكلّمت بما علمته ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) أي صادقين صدقا مطلقا في علمكم بشأن هذا الخليفة.
فقالوا هنا ( سبحانك ) التوحيد الكامل بالإستغفار التام ثمّ قالوا ( لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا ) فتبرّؤوا بعد هذا المشهد الفنائي من علمهم ثمّ إستثنوا فأثبتوا علمهم الذي علّمه الله تعالى لهم فلم ينفوه عنهم ولم يجحدوه بل حمدوا الله تعالى عليه لأنّ جاحد نعمة الله تعالى كافر نهاية الأدب مع الله تعالى فالكشف الصحيح لا يعطي العلم المطلق لهذا نصح الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه مريديه في قولته المشهورة ( إذا خالف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فاعمل بالكتاب والسنّة ودع الكشف جانبا وقل إنّ الله قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنّة ولم يضمنها لي في جانب الكشف ) فأنظر هنا كيف سأل وطلب العصمة المراد بها الحفظ التام وليس عصمة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ...
قال تعالى : ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ).
الحسد متى تمكّن من العبد يصل به إلى درجة التفكير في القتل وإن لم يعزم عليه ويباشره لأنّ الشيطان يدخل في جميع المقامات والأحوال فهو يراقب نفس العبد عن كثب فمتى رآها تحركت تحرك معها فله فيها مداخل سمعت أحد ساداتنا يقول ( النفس زوجة إبليس ) لذا قال أهل الله تعالى منبّهين رضي الله عنهم ( من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان ) .
أمّا متى ضلّ الفقير ولم يتبع منهاج شيخه فلا يلومنّ إلاّ نفسه كما حدث للسامري مع نبيّ الله تعالى سيّدنا موسى عليه السلام فقد زاغ عن السلوك القويم والطريق المستقيم فبمجرّد أن رأى أثر جبريل كما قال ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) فتسويل النفس شيء خطير كما قال يعقوب لبنيه ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ) لهذا انقسمت الرؤى فهي وإن كانت إمّا رؤيا من الله تعالى وإمّا حلم من الشيطان فهناك أيضا حديث نفس وأيضا رؤيا من الجنّ وقد فصّلها شيخنا رضي الله عنه فنقصد هنا ( حديث النفس في المنام ) فما بالك في اليقظة ..
( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ).
فرغم طرح فكرة الإغتيال والقتل إلا أنّ القتل لم يكن مقصودا لذاته وإنّما الذي كان مقصودا هو إبعاد يوسف عن أبيهم كي يخلو لهم وجه أبيهم في زعمهم فما طوّعت لهم أنفسهم قتل يوسف بخلاف قابيل فقد طوّعت له نفسه قتل أخيه كما قال تعالى ( َطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) بعد أن قال له ( قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) فعزم على قتله فشافهه بالتهديد لأنّ القتل كان مقصودا لذاته في قوله ( لأقتلنّك ) أي بسبب تقبل الله تعالى منك ولم بتقبل مني لهذا قال له رادا عليه ( قال إنّما يتقبل الله من المتقين ) فنفى عنه وصف التقوى لازم تهديده بالقتل نهاية إضمار القتل لذا جعلوا التهديد بالقتل جريمة يعاقب عليها مرتكبها لأنّه من مقدّمات مباشرة الفعل ..
لم يجمعوا بداية على كيفية طريقة إبعاده هل هي بالقتل أو بالطرح في الأرض فلو قالوا جميعهم ( أقتلوا يوسف ) فحسب لكان أمر قتله مجمعا عليه ولكن الآراء إختلفت عندهم فمن قائل بالقتل وهو أشدّهم على يوسف ومن قائل بالطرح في الأرض فبدأوا بذكر الأمر الأشدّ ثم تدرجوا ...
يتبع إن شاء الله تعالى ....
قال تعالى : ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ).
بعد التلبيس السابق الذي ذكروه في قولهم في الآية السابقة ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) عزموا على تنفيذ لازم ما وقر في نفوسهم لكنّهم زادوا كشفا لما انطوت عليه تلك النفوس من حسد ليوسف وغيرة منه لأنّهم بداية قدّموا أنّ سبب ضلال أبيهم المبين هو كثرة محبّته ليوسف وأخيه مقارنة مع محبّته لهم ثمّ في هذه الآية قالوا ( أقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ) فكشفوا أنّ المراد هو يوسف عليه السلام وليس مجرّد محبّة أبيه له لأنه برأيهم سبب ضلال أبيهم فيهم بعد أن اتهموا آباهم بالميل الغير محق ليوسف فتنادوا إلى الدفاع عن مظلمتهم بزعمهم وإنّما كما قدّمنا الذي حملهم على ذلك هو حسد يوسف والغيرة منه لأنّهم أحسّوا وعلموا أنّ يوسف هو المراد وهذا صريح في الرؤيا التي لم يقصّها عليهم بعد أن قصّها على أبيه وقد كان يعقوب على علم سابق بما انطوت عليه ضمائرهم من ذلك بصريح قوله عليه السلام ( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا ... ).
كذلك يوسف عليه السلام كان على علم بما انطوت عليه ضمائر إخوته بعد أن نبّهه أبوه قائلا كما قال تعالى ( ... فيكيدوا لك كيدا ) فهو تحذير صريح ليوسف منهم فأوضح هنا سيدنا يعقوب طبيعة تلك المنازعة لمّا قال ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) فهي منازعة على مقامات الخصوصية وفيها شبهة من منازعة إبليس لعنه الله تعالى لآدم عليه السلام لكن ليس بنفس القياس كما قدّمنا في الأعلى فقد يقول قائل وهل تصل المنازعة إلى التفكير في القتل ؟
فالجواب :
نعم , بل أكثر من ذلك ولو لا حفظ الله تعالى لإخوة يوسف لأنّهم من آل يعقوب لكان ما كان من شأنهم بل إنّ المنازعة على المقامات قد تصل بالإنسان إلى درجة الكفر أو لم يكن إبليس لعنه الله تعالى قبل خلق أدم عالما عابدا منوّرا عارفا ؟
الجواب :
نعم , قد كان كذلك فكان إبتلاؤه شديدا بآدم فنازع الأقدار بإسم الأحقيّة والعلم كما نازع إخوة يوسف يوسف عليه السلام بإسم الحقّ ودعوى ضلال أبيهم لكن الفرق الأكيد بين هذا وذاك أنّ إخوة يوسف ما خرجوا من الحسد إلى الإستكبار أو إلى الكفر أو إلى الإعتراض على الله تعالى لذا قالوا كما في الآية ( وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ) فلمّا اعتقدوا وتيقّنوا أنّ فعلهم ذاك هو معصية أضمروا التوبة فما أٍرادوا إلاّ قطع حظّ يوسف من يعقوب لظنّهم أنّ الأمر منوط بفوزهم بأبيهم يعقوب.
لهذا اتّهموه بالضلال فكان مشهدهم في هذه الحال مشهد مراتب خاصّة فما خلطوا بين العبودية والخصوصية بخلاف إبليس لعنه الله تعالى فقد خلط بينهما فأراد لعنه الله تعالى الخروج في وصف الخلافة العامّة والقطبانية الشاملة فظنّ أنّه خير من آدم كما قال ( ( أنا خير منه ) أمّا إخوة يوسف في مقامهم ذاك ما نسبوا الخيرية لأنفسهم فقالوا ( نحن خير منه ) إذ أنّ نسبة الخيرية لجميعهم في آن واحد لا تستقيم فلو حصل هذا لتخايروا فيما بينهم أيضا ولما قالوا ( ليوسف وأخوه ) بل لصدر الأمر من أحدهم فحسب أو من إثنين لهذا قالت الملائكة عليهم السلام ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) فجمعوا أنفسهم في ضمير واحد خلاف إبليس لعنه الله تعالى فما قال ( نحن خير منه ) نسبة لنورانيته وقتها بل قال ( أنا خير منه ) فبيّن منحاه في تلك الخيرية في قوله ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) فذكر نسبته النارية وطبيعته العنصرية مقارنة بنسبة آدم الطينية وطبيعته العنصرية , بخلاف الملائكة فما ذكرت نسبتها النورية وطبيعتها العنصرية فقالت ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فذكرت أمرين :
الأوّل غيرتها على جناب التوحيد أن ينتهك ولأوامر الله تعالى أن تعصى لأنّهم من جنود الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ثمّ الأمر الثاني ذكروا مراقي عبوديتهم من حيث التسبيح والتقديس فما رأوا أنفسهم على آدم وأنّهم خير منه إذ أنّ شهود هذه الحالة من الأنانية والغرور والدعوى عصمت منها الملائكة في أصل خلقتها كما قال تعالى ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) وإنّما تكلّموا بحسب ما عاينوه في كشفهم من أمر هذا الخليفة فذكروا الشريعة وصيانتها ( أتجعل فيما من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ثمّ ذكروا الحقيقة ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) أي أننّا لا نعصيك يا ربنا طرفة عين فسألوا هنا عن الحكمة الإلهية من إسداء الخلافة لمن يفسد في الأرض ويسفك الدماء لذا قال الله تعالى لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون ) وهذا أدب كبير منهم رغم أنّ الله تعالى عاتبهم على الإحتجاج بالعلم على الله تعالى .
إذ لا يحاجج أحد الله تعالى بعلمه أبدا لذا يقول المشركون في النار ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ) فقالوا بالجبر أي أنّهم مجبورون على الشرك والكفر فنسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق به لأنّ الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر هذا الكلام في ظاهره حقيقة لأنّه لا يكفر أحد أو يؤمن إلاّ متى شاء الله تعالى لكنّه في باطنه كذب وبهتان وقول على الله تعالى بغير علم لذا قال الله تعالى لهم ( كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ) فوصفهم بالكذب كما كذب الذين من قبلهم ثمّ قال لهم في هذا الجانب الذي اعترضوا فيه ( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ) فطالبهم هنا بالإفصاح عن علم ما قالوه ثمّ أبهتهم كما قال تعالى ( إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) فبيّن تعالى أنّ ما هم فيه ليس بعلم وإنّما هو ظنّ كما قال تعالى ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) وقال تعالى ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ).
المراد هنا بالظنّ الظنّ السيّء القبيح الذي لا يليق بالله تعالى لا الظنّ الذي يفيد اليقين كما قال تعالى ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) أمّا الملائكة الكرام عليهم السلام فما قال الله تعالى لهم ( كاذبين ) كما نعت ووصف بالكذب المشركين الجاهلين وإنّما ذكر فقط قوله تعالى ( إن كنتم صادقين ) وهنا هناك فرق بين أن تكون كاذبا وبين أن تكون غير صادق صدقا مطلقا لأنّ الصدق المطلق من إختصاص الله تعالى لهذا قال للملائكة لمّا تكلّمت بما علمته ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) أي صادقين صدقا مطلقا في علمكم بشأن هذا الخليفة.
فقالوا هنا ( سبحانك ) التوحيد الكامل بالإستغفار التام ثمّ قالوا ( لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا ) فتبرّؤوا بعد هذا المشهد الفنائي من علمهم ثمّ إستثنوا فأثبتوا علمهم الذي علّمه الله تعالى لهم فلم ينفوه عنهم ولم يجحدوه بل حمدوا الله تعالى عليه لأنّ جاحد نعمة الله تعالى كافر نهاية الأدب مع الله تعالى فالكشف الصحيح لا يعطي العلم المطلق لهذا نصح الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه مريديه في قولته المشهورة ( إذا خالف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فاعمل بالكتاب والسنّة ودع الكشف جانبا وقل إنّ الله قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنّة ولم يضمنها لي في جانب الكشف ) فأنظر هنا كيف سأل وطلب العصمة المراد بها الحفظ التام وليس عصمة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ...
قال تعالى : ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ).
الحسد متى تمكّن من العبد يصل به إلى درجة التفكير في القتل وإن لم يعزم عليه ويباشره لأنّ الشيطان يدخل في جميع المقامات والأحوال فهو يراقب نفس العبد عن كثب فمتى رآها تحركت تحرك معها فله فيها مداخل سمعت أحد ساداتنا يقول ( النفس زوجة إبليس ) لذا قال أهل الله تعالى منبّهين رضي الله عنهم ( من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان ) .
أمّا متى ضلّ الفقير ولم يتبع منهاج شيخه فلا يلومنّ إلاّ نفسه كما حدث للسامري مع نبيّ الله تعالى سيّدنا موسى عليه السلام فقد زاغ عن السلوك القويم والطريق المستقيم فبمجرّد أن رأى أثر جبريل كما قال ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) فتسويل النفس شيء خطير كما قال يعقوب لبنيه ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ) لهذا انقسمت الرؤى فهي وإن كانت إمّا رؤيا من الله تعالى وإمّا حلم من الشيطان فهناك أيضا حديث نفس وأيضا رؤيا من الجنّ وقد فصّلها شيخنا رضي الله عنه فنقصد هنا ( حديث النفس في المنام ) فما بالك في اليقظة ..
( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ).
فرغم طرح فكرة الإغتيال والقتل إلا أنّ القتل لم يكن مقصودا لذاته وإنّما الذي كان مقصودا هو إبعاد يوسف عن أبيهم كي يخلو لهم وجه أبيهم في زعمهم فما طوّعت لهم أنفسهم قتل يوسف بخلاف قابيل فقد طوّعت له نفسه قتل أخيه كما قال تعالى ( َطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) بعد أن قال له ( قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) فعزم على قتله فشافهه بالتهديد لأنّ القتل كان مقصودا لذاته في قوله ( لأقتلنّك ) أي بسبب تقبل الله تعالى منك ولم بتقبل مني لهذا قال له رادا عليه ( قال إنّما يتقبل الله من المتقين ) فنفى عنه وصف التقوى لازم تهديده بالقتل نهاية إضمار القتل لذا جعلوا التهديد بالقتل جريمة يعاقب عليها مرتكبها لأنّه من مقدّمات مباشرة الفعل ..
لم يجمعوا بداية على كيفية طريقة إبعاده هل هي بالقتل أو بالطرح في الأرض فلو قالوا جميعهم ( أقتلوا يوسف ) فحسب لكان أمر قتله مجمعا عليه ولكن الآراء إختلفت عندهم فمن قائل بالقتل وهو أشدّهم على يوسف ومن قائل بالطرح في الأرض فبدأوا بذكر الأمر الأشدّ ثم تدرجوا ...
يتبع إن شاء الله تعالى ....
0 التعليقات:
إرسال تعليق